فلسطين أون لاين

مسجد في ظلال كنيسة

...
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

على عتبة منزله المجاور لمسجد كاتب ولاية، وسط مدينة غزة القديمة يجلس الحاج عطا الله شعث يترقب ميلان الشمس إلى خدرها، لتصدح مئذنة المسجد العتيق بترتيل أذان المغرب: "الله أكبر الله أكبر"، فيؤذن بتلك اللحظة للصائمين تناول ما طاب لهم بعد يوم طويل شاق.

ويكتمل جمال ذلك المشهد بتسلل تراتيل الأذان من بين نسمات جدران كنسية الروم الأرثوذكس، التي استغرق بناؤها خمس سنوات من عام 402 حتى عام 407 ميلادية، ويوجد بجوارها مقبرة على مساحة 600 متر مربّع تقريبًا تحتوي على رفات القدّيس برفيريوس.

ويقع مسجد كاتب الولاية الذي أسست قواعده قبل أكثر من سبعة قرون في شارع الطالع المتفرع من شارع عمر المختار الرئيس، ويعود تاريخه إلى العصر المملوكي ويتربع على مساحة 337 مترًا مربعًا.

ويتألف المسجد من مصلى رئيس قديم البناء، حيث تتوسط 4 أعمدة الناحية الغربية من المسجد، منها اثنان رخاميان يعلوهما تاجان بزخارف، يحملان ستة عقود مُصلبة تكوِّن رواقين، وهو نظام معماري مملوكي تلاه النظام العثماني الذي تأثر بفن العمارة المملوكية.

صورة متكاملة

ولا يميز الزائر للمرة الأولى إلى تلك المنطقة القديمة بين منازل المسلمين وجيرانهم المسيحيين، فداخل تلك الشوارع الضيقة والأزقة الفرعية تتشارك جملة من معاني الحياة وتتكامل صور المودة بين أبناء الديانتين.

وانشرحت أسارير الحاج عطا الله عند الحديث عن أجواء شهر رمضان، بعدما بادره مراسل "فلسطين" بالتهنئة بقدوم شهر الخير والغفران، إذ قال: "لنا في هذه الحارة عادات وتقاليد تميزنا من باقي مناطق القطاع، فهنا يسود الحب والتعاون والاحترام، ولا شيء آخر".

وعن طقوس استقبال رمضان بين الأهالي والجيران، أضاف: "نترقب كباقي مسلمين العالم ثبوت رؤية هلال رمضان لنؤدي معًا أولى صلوات الترويح داخل المسجد، التي يفوح من بين تشققاته عبق التاريخ، وسماحة الإسلام، ووصايا عهدة خليفة المسلمين عمر بن الخطاب".

وتابع الحاج السبعيني بلغة التفاخر: "أنا أسكن هنا منذ سنوات طويلة، لم أسمع أو أر أي مشكلة نشبت بين مسلم وجاره المسيحي، بل يحدث العكس، فنتقاسم الأفراح والأحزان ونسهر ليالي تحت ضوء القمر، نتسامر بما يجول في خاطرنا من أحاديث وحكايات، ومواقف من العمل والحياة اليومية".

واستشهد عطا الله للدلالة على متانة العلاقة بين الطرفين بتنظيم مجموعة من الشبان المسيحيين خلال الأعوام الماضية مبادرات تطوعية لإفطار المسلمين، بتوزيع الماء والتمر عند المفارق الرئيسة على المواطنين المتأخرين عن موائد إفطارهم لأسباب مختلفة.

حدث جميل

وبتقاسم المسلمين والمسيحيين معاناة الاحتلال الإسرائيلي استفتح الحاج محمود أبو درف حديثه، مستذكرًا تفاصيل العدوان الأخير على قطاع غزة، صيف عام 2014م، عندما فتحت كنيسة القديس برفيريوس، أبوابها للنازحين الذي هربوا من القصف العشوائي لبيوتهم في حي الشجاعية، شرقي المدينة.

وقال أبو درف لصحيفة "فلسطين": "كان مشهد فتح الأبواب حدثًا جميلًا في ظروف الحرب والنزوح تحت وطأة القذائف، إذ تكفلت الكنيسة بتوفير احتياجات المسلمين، وقدمت لهم وجبات الفطور والسحور، وبالمقابل حافظ النازحون على ممتلكات الكنيسة جميعًا، وكأنها ملك خاص لهم".

وأضاف الحاج محمود: "المساحة الجغرافية لغزة صغيرة، لكنها ملتقى للعديد من الحضارات والأديان، وهذا الحي نموذج لذلك التسامح والتعايش"، مبينًا أنه اعتاد جيران الحي تبادل حلويات رمضان، وتحديدًا القطائف وكعك عيد الفطر السعيد.

جزء أصيل

إمام مسجد كاتب ولاية الشيخ طارق أبو شعبان تحدث لفلسطين عن الأجواء الرمضانية التي تخيم قرب المسجد، وعن علاقات المسلمين والمسحيين، قائلًا: "هم جزء أصيل من بنية الشعب الفلسطيني، فما يجمع المسلم والمسيحي على أرض فلسطين هو ترابها وهواؤها وخضرتها، والعيش تحت وطأة احتلال لا يفرق بين أطيافهم ودياناتهم".

ويجسد أبو شعبان جمالية العلاقة المرتكزة على المودة والتراحم بتعانق هلال "كاتب ولاية" مع صليب كنيسة القديس برفيريوس، مضيفًا: "يسود بين سكان الحي لغة الاحترام، فلا تكاد تجد إطلاقًا مسيحيًّا يتناول الطعام أو يشرب في نهار رمضان على أعين المسلمين الصائمين".

وبين أن أرض غزة تصلح أن يضرب بها المثل على المستوى العالم، ففي الوقت الذي يسيطر فيه القتال والنزاعات الدامية على عدة بلدان لأسباب حزبية أو طائفية أو دينية؛ يعم قطاع غزة السكنية والأمان، مع ضنك العيش واشتداد الحصار.

ويبلغ عدد السكان المسيحيين في غزة نحو 1300 شخص، ينتمون إلى ثلاث طوائف: اللاتينية والأرثوذكسية والمعمدانية، وتعد عائلات الترزي والخوري والصايغ وسابا والصراف والطويل، وفرح من أشهر العائلات المسيحية في غزة، ويسكن أغلبها في مختلف أحياء مدينة غزة.