تقف منى الكرد غير آبهةٍ بأفراد جيش الاحتلال الذين اقتحموا فضاء منزلها لاعتقالها، وهي تعدلُ غطاء الرأس وتعدلُ أيضًا موازين الصراع من جديد مع الاحتلال، تعيدُ رسمَ خارطةِ المواجهة بالصوتِ والصورة والكلمة، ثم تشابكت يداها من الخلف وأنزلتهما، وهي ترفعُ رأسها بشموخٍ لتقودها المجندة إلى التحقيق.
في المشهد فتاةٌ تبحثُ عن الحياة، عن العيش بأمان، تكافحُ لاسترداد منزلها الذي سرقه المستوطنون، تتشبث بجدرانه، وتعلي الصوت "لن نرحل"، عبارةٌ تنطق بها جدران الحي، أما على جدران قلبها فقد التصق حب "الشيخ جراح" فيه، تُكرِّسُ كل وقتها لتكون مرآته على العالم.
منى التي ولدت في الشيخ جراح ورأت أمام ناظريها المستوطنين بحماية جيش الاحتلال يسلبونها منزلهم الأول عام 2010م، شعرت بشعور والدها الذي سلبت روحه منه يومها، فتجسدت قضية حي "الشيخ جراح" بعائلة الكرد يمثلون معاناة 28 عائلة وانعكاسًا لحكاية شعب كامل، حيث تضع حكومة الاحتلال مجهر التهجير على الحي، وتضيق الخناق على سكانه من كل الاتجاهات.
كبرت منى وهي ترى المستوطن "يعقوب" الذي استوطن في منزلها الأول وعينه على ابتلاع ما تبقى من المنزل بمساعدة جيش الاحتلال، تماما مثلما ابتلع الاحتلال الإسرائيلي أرض فلسطين.
قبل أيام اعتدى المستوطن "يعقوب" الذي ظهر في الفيديو الشهير وهو يجاهر بسرقته نصف منزل "الكرد"، وأنه "إذا لم يسرقه هو فسيسرقه آخر"، اعتدى على منى برشها بمادة الألوان وقال لها: إنه "كان يتمنى لو معه غاز الفلفل".
اشتكت منى "يعقوبَ" إلى مركز شرطة الاحتلال، ولكنها أُوقفت لعدة ساعات وخرجت بشروط كفالة 10 آلاف شيقل والابتعاد بمقدار عشرة أمتار عن المستوطن لمدة شهر، تلك النتيجة متوقعة عندما يكون العدو "هو الخصم والحكم".
وبينما كانت أذرع الاحتلال تستفرد بـ "الشيخ جراح" وتحاول تنفيذ ما تبقى من مخطط عدواني لتهجير سكانه المقدسيين، كانت منى مرآة الحي للعالم، تنقل وقائع جلسات المحكمة الإسرائيلية بشأن التهجير، وكل ما يحصل في شوارع وأزقة الحي لحظةً بلحظة، بما في ذلك صرخات الضحايا ومشاهد قمع مقاومتهم رفضًا لأن يعيشوا نكبة جديدة.
مراسلة ميدانية
منى التي درسَتِ الإعلام في جامعة بيرزيت، ولا يزيد عمرها على 23 عامًا، أصبحت مراسلة ميدانية للحي تخاطب العالم عبر حسابات قنواتها على مواقع التواصل الاجتماعي، فهي التي تصور وتكتب وتسجل مقاطع مرئية لكل ما يجري، حتى باتت هي الأخرى تحت مجهر الاحتلال بعدما أصبحت أيقونة للشيخ جراح.
مع انطلاق حملة "أنقذوا حي الشيخ جراح" في مارس/ آذار الماضي، برزت شخصية منى التي تقول إن أكثر من مليون ونصف المليون شخص يتابِعها الآن، عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
في إحدى المقابلات أفصحت منى عن العبء الكبير للمكانة التي وضعت فيها رغما عنها، وعن تفاصيل حملتها: "جاءت فكرة حملة أنقذوا حي الشيخ جراح بعفوية، فبعدما طرقنا بعدِّنا سكانًا للحي جميع الأبواب الحكومية والحقوقية والدولية، ولم نلقَ أي رد إيجابي.. ارتأينا بصفتنا شبابًا نعيش عصر شبكات التواصل الاجتماعي التوجه نحو حملة إعلامية إلكترونية، على أمل أن تلقى الصدى المطلوب وأن يعرف الناس، على الأقل، ما يحدث في هذا الحي المقدسي".
بفعل ذلك زاد عدد متابعي حساباتها لنقل الواقع الفلسطيني على انستغرام من 13 ألف متابع إلى أكثر من 300 ألف، وزاد متابعوها على صفحتها على "فيس بوك" على 165 ألف متابع.
ومع دورها الكبير استحقت لقب "مراسلة الحي"، منحها إياه الأهالي، فقد أصبحت هي من تكتب الخبر والصورة التي يريدون نشرهما، وأصبحت مرآةً تعكس واقعهم للعالم وأصبحت تحظى بمتابعة كبيرة من ناشطين ومؤثرين ورواد مواقع التواصل، وأصبحت قضية الشيخ جراح حيةً طوال القوت، لكنها لا تنسى فضل غيرها، "لا أستطيع أن أقول إن هذا العلم كله لي، فجهود الناشطين من القدس وخارج القدس كانت مهمة جدًّا وكان لها دور كبير في شهرة قضية الشيخ جراح".
الظهور ليس جديدًا
ولا يقل عنها شقيقها التوءم محمد وهما يوثّقان محاولات المستوطنين الاستيلاء على منازل في الشيخ جراح منذ أن كانا في الثانية عشرة من العمر، فقبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي كان التوءمان يتحدثان مع المتضامنين الأجانب، يحملون رسالة لكل متضامن يطأ أرض الحي، وهكذا ترعرعا وتعلما الإنجليزية، وأصبحا يشاركان في لقاءات دبلوماسية مع سياسيين وجلسات للأمم المتحدة عبر تقنية "الزوم" حاليا، وببلوغهما سن الثالثة والعشرين تحولا إلى رمزين عالميين للحي.
طفلة تمسك كاميرا بيدها يجلس شقيقها الطفل وهو يمسك كاميرا أخرى، التقطت الصورة لمنى ومحمد قبل عشر سنوات، ربما لم يتوقعا أن يصبحا بهذا المستوى من الشهرة والتفاعل، لكن كان بريق حبهم لحيهم ينبعث بوضوح من أحداقهما.
أثبت محمد ومنى أنهما قادران على التفوق في المحافل الدولية أيضًا، فمحمد الذي يحمل الحق كأداة قوة يملكها، امتزجت بإرادة التشبث بالأرض، رفض الأسئلة الملتوية في إجابته عن أسئلة أعضاء البرلمان الهولندي عن الوضع الراهن، فقال في رده: "لقد بُنيت هذه المنازل لنا من الحكومة الأردنية، كانت المشكلة أن المستوطنين يقدمون الوثائق للمحاكم الإسرائيلية بزعم ملكيتهم لها، فانعدام التوازن هنا تمثل بأن المحاكم الإسرائيلية لم تنظر في الوثائق التي نقدمها، وأنا أرفض دفع إيجار لمؤجر غير موجود، وأشعر بالعار لأنك طرحت علي سؤالا بهذا المستوى من الجهل".
"طوال عمرها تعيش في واقع قضية بيتها وحيها منذ أن أبصرت الدنيا، منذ سبع سنوات وهم يعيشون هذا الوضع، ترى المنازل التي يحاول الناس بناءها يهدمها الاحتلال، وجود المستوطنين في منزلنا منذ عام 2010، ابنتي كبقية فتيات الشيخ جراح كان لها دور كبير في إيصال الرواية الفلسطينية بشكل جيد، كما أن أمها خلقت فيها روح العلم والمعرفة"، يلخص والدها العم نبيل لصحيفة "فلسطين" الظروف التي نشأت فيها ابنته وصقلت شخصيتها.
ويضيف والدها أن ابنته لا تفعل أكثر من المطالبة بحقها في منزلها وتوصل للعالم ما يعيشه حيها، إلا أن الاحتلال لم يرق له ذلك، "فالمحتل ليس مستاءً من منى وحدها بل هو مستاء من كل ما هو فلسطيني ويسعى لترحيلنا قسريًّا".