بمجرد الإعلان عن وقف إطلاق النار ارتاح العدو الإسرائيلي، خرج ملايين الإسرائيليين من مخابئهم، واشتغلت ماكينة العمل والصناعة، وتحركت شاحنات التجارة، وظلت غزة مغلقة خلف حصارها، معلقة من عنقها على حبل الانتظار، انتظار ضغط الوسطاء، وانتظار فتح المعابر، وإدخال المواد الغذائية، وانتظار الإعمار، وانتظار موعد عقد اللقاءات والحوارات.
إنها المرة الثانية التي نصطدم بالنتيجة نفسها، رغم أننا نمتلك مقاومة مبدعة في المعركة، تقدم ما يفاجئ، وتُظهر قدرة وقوة مذهلين، ولكن النتائج ما كانت بمستوى العطاء، فما زالت تراوح مكانها، ما بين وسطاء ووعود، وعقد اجتماعات، وهذا ما تكرر بعد عدوان 2014، حين كانت الهزيمة الإسرائيلية فاضحة واضحة، وهذا ما تكرر بعد عدوان 2021، حين كان انتصار الشعب الفلسطيني مدوياً ومجلجلاً، ومع ذلك تشابهت النتائج، حتى هذه اللحظة على أقل تقدير، حيث اعتمد العدو الأسلوب نفسه في المماطلة، والاستفادة من الوسطاء إلى أبعد حد، بل وتوظيف وقف إطلاق النار لتعزيز قدراته الدفاعية، وترميم الفشل الذي أصاب قبته الحديدية، وملء مخازن الأسلحة من جديد، وهذا هو دأب العدو منذ مئة عام، حيث كانت العصابات اليهودية تطلب الهدنة في كل زنقة، فإذا أعدوا أنفسهم واستعدوا، عاودوا العدوان.
غزة على مفرق القرارات المصيرية، والقبول بهذه الحالة من تنقيط الانفراج لا يقبل به مهزوم، ولا يرضى به مكلوم، فكيف وحال غزة المعنوي والنفسي والذي وصل إلى عنان السماء، حيث توقع الناس أن يشهدوا انقلاباً جذرياً في حياتهم، وهم الذين قدموا كل أشكال الصمود والمواجهة، وقدموا الشهداء والجرحى، ولم يرتجف لهم جفن لحجم التدمير، كل ذلك الصمود استوجب الثمن، وعلى العدو أن يدفع الثمن، فقدرات غزة على الصمود والمواجهة والقتال أكثر مما تظن قيادة المقاومة، والقدرة على الصبر وتحمل إرهاب العدو يفوق تقديرات العدو نفسه، وهذا ما يجب أن تتفهمه قيادة المقاومة، فالناس الذين قدموا أعمارهم، ومنازلهم، وأبناءهم ومستقبلهم، جاهزون لتقديم المزيد من الأرواح والأبراج والإحراج للعدو، ولكن بشرط كسر هذه الحالة المقيتة من الانتظار، ومن تنقيط الانفراج، ومن تفضل القادرين على العاجزين.
وإذا كانت غزة قد صمدت سنة 2014 لمدة 51 يوماً، فالواجب يقضي بأن تخوض المقاومة حرب استنزاف مع العدو تفوق الخمسين يوماً، وتتجاوز مئات الأيام، حرب استنزاف طويلة الأمد، على كل الجبهات، وبكل المستويات، حرب استنزاف لا تسمح للعدو بالعمل والنوم والصناعة والتجارة والاستقرار، حربا مفتوحة على كل الاحتمالات، فإذا كان العدو يحاصر غزة، فلنحاصره بعمليات المقاومة في العمق، وإذا كان قد عطل حياة الناس، فلنعطل حياته في الحافلات والمصانع والمؤسسات، وإذا كان قد ضيق سبل المعيشة على سكان غزة، فلنعمل على تضييق سبل التطور والنمو الاقتصادي في كل تجمع صهيوني، وغير هذه اللغة العنيفة القوية لا يفهم عدونا، ولن يشفق علينا، ولن يتحنن لدموعنا، وتسولنا فك الحصار لدى الوسطاء.
إن أنفاس غزة المختنقة لأكثر صبراً على البلاد من أنفاس عدونا المنفتحة، وإننا لأقدر على الصبر والجوع الذي خبرناه من صبر عدونا على إغلاق منافذ حياته، ومن أراد وطناً وحرية وكرامة ومستقبل حياة كريمة، عليه ألا يقع في المحذورين:
الأول: ألا تكون المعركة من أجل رفع الحصار، فهذه غاية المحتلين، يجب أن تكون المعركة من أجل القدس، ولا بأس من التريث حتى يقع العدو في فخ التطرف بعد أيام، فهم يرتبون لمسيرات تقترب من المسجد الأقصى والشيخ جراح، وهذه فرصة لانطلاق الصواريخ دفاعاً عن القدس، لا دفاعاً عن رغيف الخبز، رغم أهميته، وضرورة القتال من أجله.
الثاني: عدم التوقف في منتصف الطريق، فحرب الاستنزاف سترهقنا ولكنها ستدمي مقلة عدونا، ومن يجرد سيف القدس المسلول، عليه ألا يعيده إلى غمده إلا وقد حقق أهدافه، فالوقوف في منتصف الطريق عجز، وصاحب نصف القفزة يظل معلقاً في الهواء، أما إذا اكتملت الحركة، ووقفت المقاومة على الأرض الثابتة، فهذا ما نرجوه من مواجهات أثبتت من خلالها المقاومة أنها مبدعة، وقادرة على قلب المعادلة لصالح شعبنا الفلسطيني الصبور المعطاء.