(إسرائيل) لديها حساسية وأزمة حقيقية بسبب عدم شرعية وجودها؛ فهي تعلم أن الأساس الوضعي الوحيد أمام العالم لشرعيتها هو قرار التقسيم، وهو باطل لأنه يتضمن انتهاكًا لميثاق الأمم المتحدة، وتعرف أن قرار إنشائها الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 يمكن أن تقول فيه محكمة العدل الدولية كلمتها في رأى استشاري؛ فقرار التقسيم وافقت عليه فيما بعد الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية ولم تحترمه (إسرائيل).
ومن ناحية ثالثة، إن الأمم المتحدة وضعت ثلاثة شروط في قرار قبول (إسرائيل) عضوًا في الأمم المتحدة عام 1949، فضلًا عن أن (إسرائيل) لم تستوفِ شروط العضوية أصلًا في المادة الرابعة من الميثاق فيما كشف عن سلوكها فيما بعد.
ولما كانت مشكلة الشرعية تطارد (إسرائيل) فإنها قامت بهزيمة مصر والأردن وسوريا، واستولت على القدس ضمن كل الأراضي الفلسطينية عام 1967، وبدأت على الفور في تنفيذ مخططها بتهويد شرقي القدس وغربيها، وكل أرض محتلة استولت عليها بالقوة، وفي عدوانها عام 1967، فإن (إسرائيل) ضمت 21% من أرض فلسطين خارج قرار التقسيم، وكان أحد شروط عضوية (إسرائيل) في الأمم المتحدة عام 1949 هو احترامها وتنفيذها لقرار التقسيم.
ودلالة القرار عند الأمم المتحدة أنه شهادة ميلاد (إسرائيل) ومصدر شرعيتها الكسيرة، أما عند (إسرائيل) فإن قرار التقسيم هو مجرد اعتراف من المجتمع الدولي بنظرية "استرداد اليهود لفلسطين التي كانوا فيها قبل طردهم منها منذ آلاف السنين".
وكان هدف (إسرائيل) من هزيمة مصر وسوريا والأردن في وقت واحد واحتلال أراضيهم أن يكون هذا الاحتلال مكافأة للمنتصر، وأن تكون الأرض رهينة في يد (إسرائيل) حتى تضمن عدم استخدامها في العدوان المزعوم عليها؛ فـ(إسرائيل) طوال تاريخها هي المعتدية على العرب.
وعندما بدأت واشنطن التوسط لتحقيق أهداف (إسرائيل) ضد منظومة قرارات مجلس الأمن، الذي أكد في القرار 242 أنه لا يمكن اكتساب الأرض باستخدام القوة، وأن ترك الأرض هو مكافأة للمعتدي، ولذلك يجب أن تجلو (إسرائيل) عنها دون قيد أو شرط، ولأن (إسرائيل) هي التي اعتدت واحتلت الأرض عليها بالانسحاب أن تصحح الخطأ دون أن يدفع العرب ثمنًا لانسحابها، لأن الانسحاب هو بمنزلة رد اللص للمسروق، ويجب بعد ذلك أن يعاقب على واقعة السرقة/ العدوان والاحتلال.
ومعنى ذلك أن واشنطن أعانت (إسرائيل) على مخالفة القرارات الدولية، وتجبر مصر والأردن على الاعتراف بها دون تحفظات، رغم أن حدودها الدولية غير محددة، وترهن تحديد هذه الحدود الآمنة بقوتها وبشعورها هي بالأمن.
فالاعتراف هو مقابل الانسحاب الإسرائيلي ليس من كل الأرض المحتلة، ولكن تنسحب (إسرائيل) إلى حدود آمنة من الأرض العربية المحتلة، رغم أن الانسحاب يجب أن يكون بلا شروط، وانما امتثال لأحكام القانون الدولي.
فالاعتراف الذي تسعى إليه (إسرائيل) كان غصبًا لا رضا في صفقات السلام، لا معاهدات السلام، لأنها معاهدات غير متكافئة يشوبها مسوغ الفسخ، وهو القسر والإرغام، بصيغة إما استمرار الاحتلال أو الانسحاب مقابل الاعتراف والالتزامات الأخرى.
فهاجس الاعتراف بـ(إسرائيل) يتماشى مع الحالة النفسية للص الذي يعلم أنه يعمل خارج الأطر القانونية، ورغم أن الاعتراف يكفي (إسرائيل) حرصت على تسجيل الاعتراف في صدر المعاهدة ثم النص صراحة على المرور بالقناة، وإنهاء حالة الحرب مع مصر، وهي كافية لمرور (إسرائيل) بالقناة، لأن حرمان (إسرائيل) من المرور بالقناة كان مسوغه حالة الحرب بين البلدين التي أعلنتها مصر فور إعلان إقامة (إسرائيل) في 14 مايو، وتأثرت بهاجس الشرعية، فإن (إسرائيل) أصرت على الالتزام بتبادل العلاقات وإنشاء البعثات الدبلوماسية في مدى زمني معين، رغم أن الاعتراف شرط لازم لإقامة العلاقات، ولكن قرار إقامة العلاقات وإنشاء البعثات أمر متروك لحرية الطرفين في الاتفاق عليها.
ثم إن الاعتراف قرار سيادي لا ترغم الدولة عليه، وهناك فرق بين حرية إنشاء العلاقات والبعثات والالتزام بقطع العلاقات الذي تمليه ظروف دولية مثل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1946 بقطع العلاقات الدبلوماسية مع نظام فرانكو في مدريد، كما أن إعلان الحرب قرار سيادي ولكنة صار ملزمًا للدول التي تسعى إلى المشاركة في مؤتمر سان فرانسيكو لإنشاء الأمم المتحدة، وذلك بإعلان الحرب على دول المحور والالتزام بالمادة 107 من الميثاق، رغم أن الحرب الثانية كانت قد انتهت بالفعل في يونيو 1945.
ولذلك إن ورقة الاعتراف التي فرضتها (إسرائيل) على مصر والأردن وإقامة العلاقات معها في مدى زمني معين لا تصل إلى مستوى التطبيع، لأن للتطبيع دلالتين:
الأولى أن التطبيع يشمل كل صور العلاقات، والثانية أن تكون العلاقات طبيعية مع (إسرائيل) من عدم.
أما في فلسطين فقد وقعت (إسرائيل) مع عرفات في أوسلو وثيقة أطلق عليها خطأ الاعتراف المتبادل، وهو في الواقع اعتراف فلسطين بـ(إسرائيل) دون تحفظات، تمامًا كما اعترفت مصر والأردن بـ(إسرائيل) اعترافًا مفتوحًا، فلم تتحفظ مصر مثلًا بالقدس التي كان لها موقف منها خلال كامب ديفيد، كما لم يتحفظ السادات على الحكم الذاتي للسكان وليس الأرض، وادعى ظلمًا وحنقًا على عرفات بسبب معارضة كامب دافيد أن مقعد فلسطين ظل ينتظرها في مفاوضات فندق مينا هاوس في مصر، والسادات يعلم جيدًا أن الوثيقة الأولى تتعلق بالحكم الذاتي للسكان، أما الأرض فلـ(إسرائيل)، وكان مطلوبًا من عرفات حتى يرضي السادات عراب التطبيع مع (إسرائيل) أن يبحث في تفاصيل قبول هذه الصيغة، وذلك قبل أن يلحق عرفات في أوسلو بقطار الاعتراف العربي بـ(إسرائيل) بلا مقابل أو تحفظات.
فقد اعترف عرفات بـ(إسرائيل) مطلقًا ليس في حدود قرار التقسيم الذي لا تعترف به (إسرائيل) وليس بشرط تنفيذ الشق الفلسطيني من القرار أو بشرط احترام وضع القدس في القرار.
مقابل الاعتراف المطلق بـ(إسرائيل) اعتراف (إسرائيل) بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وذلك حتى تستبعد حماس ومنظمات المقاومة، وهي صيغة اعتمدت في الأمم المتحدة عام 1950 لكي تنشأ المملكة الأردنية الهاشمية بعد أن كانت إمارة شرق الأردن.
ولما كانت (إسرائيل) بدأت حربًا مفتوحة على الفلسطنيين بهدف إخضاعهم لقرار تفريغها من سكانها وهدم الأقصى؛ وجب على السلطة وعلى مصر والأردن أن تسحب الاعتراف بـ(إسرائيل) فتصيب (إسرائيل) في مقتل، لأن مشكلتها هي الاعتراف بشرعية وجودها كما تفهمه (إسرائيل) فوجودها يشمل مغامراتها وتوسعاتها، ولذلك ابتكرت (إسرائيل) أسطورة الحدود الآمنة وحق (إسرائيل) في الوجود، وكلها صيغ مترتبة على الأزمة النفسية لعدم شرعية (إسرائيل).
فأسطورة الاعتراف المتبادل خدعة لكي تغطي على الاعتراف الفلسطيني بـ(إسرائيل) بلا قيد أو شرط، فقد تمسكت (إسرائيل) بأن المنظمة التي اعترفت بها هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطينى حنى تستفيد دوليًّا بهذا الاعتراف، وحتى تقطع الطريق على منازعة منظمات المقاومة في تمثيل الشعب الفلسطيني.