بدأت جهود تطويق النتائج السياسية لمعركة الشعب الفلسطيني (الكل الفلسطيني الحقيقي) المجيدة، بدأت قبل أن تتوقف النيران، وازدادت شراسة بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
يدور الحديث عن جملة من القضايا هي محل صراع بعضه صريح، وبعضه خفي، لكنه من نوع الأسرار المكشوفة، ويمكن توضيح هذه القضايا عبر النقاط التالية: أولًا لقد فُتحت مجموعة من الفرص أمام الأطراف الأربعة الرئيسة في هذه المعركة (الاحتلال، والمقاومة، ومحمود عباس وفريقه، والوسيط المصري)، دولة الاحتلال رأت أن الدمار الذي حصل في غزة يجب أن يُستثمر للضغط على المقاومة بربط إعادة الإعمار بتحرير أسرى الاحتلال لدى المقاومة، إضافة إلى استخدام إعادة الإعمار لإضعاف سلطة المقاومة في غزة بإيجاد دور لمحمود عباس وفريقه، أو لقوى إقليمية، في الإعمار، ويُضاف إلى ذلك رأت الحكومة الجديدة أن الوضع الجديد يفتح أمامهم فرصة لتغيير قواعد الاشتباك مع المقاومة في غزة.
وبخصوص الفرصة التي فتحتها المعركة أمام محمود عباس وفريقه إنها تتمثل اكتشاف الرئيس الأمريكي الجديد أن القضية الفلسطينية ما زالت قادرة على تفجير الأوضاع، رغم كل جهود التطبيع، وأن هذا يحتاج إلى تقوية سلطة فريق التسوية الفلسطيني، إضافة إلى إعادة الحديث عن حل الدولتين (الحل الفاشل والمستحيل بسبب الوقائع التي فرضها الاحتلال على الأرض)، وهذا جعل محمود عباس وفريقه في انتظار إشارة بدء المفاوضات، بكل ما تعنيه من إدارة الظهر للشعب ومصالحه وقواه، فالمصلحة في الخارج ومن طريق الإدارة الأمريكية والاحتلال، وليست في الداخل.
وفيما يتعلق بالفرصة أمام النظام المصري تتمثل في إدراك الأمريكان أن مصر لاعب محوري في الإقليم، واستبداله غير عملي، وبذلك تواصل الرئيس الأمريكي مع الرئيس المصري، وفوّضه بالتدخل للتوصل إلى تهدئة بين المقاومة والاحتلال، ومكسب النظام المصري من هذا التواصل يتمثل في غض الرئيس الأمريكي جو بايدن الطرف عن ملف انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، والتعامل الطبيعي مع النظام المصري بغض النظر عما يجري في الداخل المصري، إضافة إلى أن النظام المصري يتوقع أن النجاح في ملف التهدئة قد يفتح الباب أمام اعتراف أمريكي بمزيد من الأدوار له في المنطقة، وقد يؤدي إلى تدخل أمريكي لمصلحة مصر فيما يتعلق بمشكلة سد النهضة بين مصر وأثيوبيا.
وتتمثل فرصة المقاومة في أن هذه المعركة أسقطت في الميدان كل مقولات التسوية والتنسيق الأمني، وأظهرت أن مقاومة غزة رغم الحصار جعلتها عنوانًا يطلب الفلسطينيون منه النُّصرة، ويعترفون له من الناحية الميدانية بالقيادة، ولهذا ترى المقاومة أن المعركة فتحت الباب أمام إعادة ترتيب البيت الفلسطيني بعيدًا عن المناورات التي امتدت منذ عام 2005م، واستمرت بلا نتائج إيجابية حتى اللحظة، بل إنها ألحقت أضرارًا إستراتيجية بالقضية الفلسطينية.
إن قراءة الأطراف الأربعة الفرص كما عرضنا الأمر آنفًا يجعل ما يجري في القاهرة من لقاءات هو أقرب إلى استمرار المعركة بأساليب غير عسكرية، ويجعل الساحة مفتوحة على مزيد من المواجهات العسكرية.
ثانيًا: الصراع على تغيير أو تثبيت المعادلات الحاكمة للمواجهة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال، إذ تسعى المقاومة لتثبيت حقها في حماية الشعب الفلسطيني في القدس، إضافة إلى تثبيت حقها في منع الاحتلال من قصف غزة، وتثبيت حق المقاومة في استخدام أساليب الكفاح الشعبي الخشنة لكسر الحصار المفروض على غزة، وضمان استمرار فتح المعابر وتدفق الأموال والبضائع من غزة وإليها.
والاحتلال يريد أن يُلغي هذه المعادلات، ويحاول أن يصنع مشاهد اقتحام للأقصى، ويمارس اعتداءات دائمًا في أحياء القدس، إضافة إلى استمرار الاستيطان في القدس، وإغلاق معابر غزة، وعندما تطلق المقاومة البالونات الحارقة يرد الاحتلال بقصف صاروخي على مناطق فارغة في غزة، في خرق واضح للمعادلات التي ثبتت قبل معركة سيف القدس في مايو 2021.
ثالثًا: إن أغلب الكلام الذي قيل بشأن ترتيب البيت الفلسطيني منذ عام 2005 حتى اللحظة هو من قبيل (كلمة حق يُراد بها باطل)، وما يجري في حقيقة الأمر -من جانب فريق التسوية- هو محاولة إعادة بناء قواعد حاكمة للعلاقات الفلسطينية الداخلية تضمن استمرار مسيرة التسوية والتنسيق الأمني، بحيث تكون نتيجة توافق أو انتخابات من حيث الشكل، أما فريق المقاومة فهو يحاول أن تكون هذه القواعد الحاكمة للعلاقات الداخلية الفلسطينية ضامنة لتغيير وظيفة السلطة الأمنية، وداعمة للمقاومة، وأن يحصل تيار المقاومة -داخل المؤسسات الفلسطينية- على مكانة تليق بوجوده على الأرض.
ولهذا لم تنجح الحوارات، ولم يتمكن أي طرف من فرض إرادته على الأرض، وظهرت كل الحوارات كما لو أنها صراع على مكاسب في السلطة، ولهذا سيواصل الطرفان إدارة الصراع حتى يتمكن أحدهما من فرض إرادته على الآخر.
إن الحوار المطلوب الآن هو حوار لبلورة عقد اجتماعي جديد، تشتمل بنوده على قضايا الإجماع الوطني التي لا يجوز الاختلاف بشأنها، وتتحدد بمقتضاه أساليب الكفاح والمقاومة، وطريقة اختيار القيادة وتداولها، وآليات ومؤسسات صناعة واتخاذ القرار الوطني.
دون هذا العقد الاجتماعي سيبقى كل حديث عن الوحدة الوطنية هو من قبيل (كلمة الحق التي يُراد بها باطل).
بناءً على المحاور الثلاثة السابقة الذكر؛ إن التوصل إلى تفاهمات تُرضي جميع الأطراف هو عبارة عن ضرب من الأوهام، ما الذي سيحدث؟ هل سيكون المشهد على أبواب حرب جديدة؟ أم خضوع؟
أعتقد أنه في الأشهر القادمة سيحاول كل طرف تعظيم إنجازاته، وتقليل مخاسره قدر الإمكان، وربما تلجأ الأطراف الخارجية إضافة إلى فريق محمود عباس إلى إعاقة الإعمار، ومحو آثار معركة سيف القدس، لكن المقاومة بإمكانها أن تفتح معارك جديدة في القدس وفي الضفة، وربما تلجأ في غزة إلى تشكيل لجان مهنية أو شعبية لتدشين خط بحري ينطلق من غزة باتجاه العالم، وتعلن المقاومة استعدادها لحمايته، حينها ستجد الأطراف التي تُعيق فتح المعابر أنها أمام مواجهة من نوع جديد، فقد تضطر إلى مراجعة مواقفها.
المرحلة القادمة هي مرحلة معارك من نوع مختلف: إعادة الإعمار، وتحويله إلى "طوشة"، تبادل الأسرى، الحوار الفلسطيني والمصالحة، تكبيل يد المقاومة من طريق الوسطاء.