فلسطين أون لاين

"ما خفي أعظم" .. تكتيك تفاوضي عبر الفضاء الإعلامي

إن أهم ما يميز البيئة الدبلوماسية المعاصرة، هو تأثرها بوسائل الإعلام، والعلانية التي تفرضها عليها. وقد أصبحت الأحداث الإعلامية مرغوبة الاستخدام كتقنية دبلوماسية، في مجالات عدّة أثناء المفاوضات، وذلك إما لكسب تأييد شعبي، أو لتحريك ملفات حساسة دون رغبة أطراف معينة. ولا يمكن تجاهل دور وسائل الإعلام وقدرتها على تشكيل آراء مساندة أو مضادة لطرف ما من أطراف العملية التفاوضية، ولا يكون ذلك ضاغطًا عليه إلا من خلال تسريب وثائق ومعلومات، لا يودُّ ذلك الطرف المفاوض كشفها في وقت حساس لديه.

برنامج "ما خفي أعظم"، الذي عرضت قناة الجزيرة الفضائية حلقة منه بعنوان "في قبضة المقاومة"، هو خطوة تفاوضية إعلامية مهمة ضمن مراحل العملية التفاوضية المتدرجة، التي تخوضها المقاومة الفلسطينية مع الاحتلال الصهيوني، بهدف إنجاز صفقة ثانية للإفراج عن الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، ومبادلتهم بجنود عسكريين مأسورين لدى كتائب القسام منذ سنوات، دون الإفصاح عن مصيرهم حتى اللحظة.

تلك الرسالة الإعلامية أخذت في الحسبان دلالات الكلمات المستخدمة، وتميزت بالدقة والوضوح والعقلانية في تقديم المعلومات، واستُخدمت فيها الأرقام لما لها من مصداقية عالية، كما استُبعدت فيها المبالغة عند سرد الحقائق. وقد وجهت رسالتها إلى الاحتلال الصهيوني، متمسكة بموقف ثابت غير قابل للتغيير، وهو أنه لا مجال لربط مسار التفاوض على الأسرى بمسار التفاوض على الإعمار. كذلك وجهت رسالة إلى الوسطاء، بأن لا مجال للتحيز أو المهادنة مع طرف دون الآخر، وأنه لا يمكن القبول بممارسة أي نوع من الضغوط على المقاوم الفلسطيني، كطرف مفاوض، وأن الوسطاء النزيهون المجرّبون موجودون وجاهزون للدخول على خط التفاوض. أيضًا وجهت رسالة إلى شعبنا الفلسطيني في ربوع الوطن كافة، وإلى شعوب أمتنا العربية والإسلامية، بأن المقاومة لا تفرّق في التعامل مع أبناءكم الأسرى في سجون الاحتلال، وأن فكاك أسرهم جميعًا أولوية وطنية وعربية وإسلامية.

وبقراءة علمية منهجية لما تم عرضه في هذا التحقيق الاستقصائي، تبرز لدينا العديد من الاستراتيجيات والتكتيكات التفاوضية المهمة، حتى وإن لم يُقصد اتباعها، لكن من المهم الوقوف عندها ودراستها. عمومًا، فإن طرفي التفاوض هنا يتّبعان مع بعضهما أسلوب السرية في التعامل، وعـدم الانفتـاح، والسـلوك العـدواني، وعـدم الثقـة المتبادل، لذلك يغلب على النهج التفاوضي بينهما بشكل عام استخدام (الاستراتيجية التنافسية، واستراتيجية الهيمنة). أما بخصوص التحقيق الاستقصائي تحديدًا، فقد ظهر خلاله اتباع (استراتيجية الاستفزاز، واستراتيجية تعظيم الفائدة المتبادلة). وتندرج تحت هذه الاستراتيجيات مجموعة من التكتيكات، لعله عند الإشارة إليها في الشرح أدناه، يمكن استيضاح معاني تلك الاستراتيجيات والأهداف المرجوة منها.

التحقيق الاستقصائي في حدّ ذاته يأتي ضمن (تكتيك التدرج أو الخطوة خطوة)، بغية الوصول إلى الهدف المنشود، وهذا يفيد في حالة عدم الثقة أو محدوديتها بين الطرفين. وهو ما يعطي انطباعًا بوجود رغبة قوية وجادة من طرف المقاومة في إنجاز صفقة تبادل الأسرى القادمة. ومعلوم أنه كشرط من شروط أي مفاوضات، لا بدّ من وجود رغبة مشتركة بين الطرفين للجلوس من أجل تفاوض، وهو ما يعني أن الكرة الآن باتت في الملعب الصهيوني، وأنه لا حلّ لقضية جنوده الأسرى إلّا بالجلوس على طاولة المفاوضات.

أما التسجيل الصوتي لأحد الجنود الأسرى لدى كتائب القسام، والذي لم يُفصَح فيه عن اسمه، فهو يعتبر بمثابة تغيير مفاجئ في الأسلوب لم يكن متوقعًا، وهذا يعرف بـ(تكتيك المفاجأة)، وهو من أهم التكتيكات الضاغطة شديدة التأثير، وقد أفقد حكومة الاحتلال القدرة على الردّ المقنع على ما ورد فيه. كما يندرج أيضًا ضمن (تكتيك المناورة)، والذي يقوم أساسًا على مفاجأة الخصم، بهدف إرباكه وإحراجه وإجباره للقبول بالأمر الواقع والتجاوب مع الشروط التفاوضية. لكن تقديم هذا التنازل الصغير، لا بدّ أن يقابله الحصول على تنازلات أكبر، وإلّا فلا ضرورة مستقبلًا لتقديم أي تنازل بلا مقابل، وخاصّة إن كانت النتيجة عدم اكتراث حكومة الاحتلال، فلا بدّ لكلّ عرضٍ من ثمنٍ.

كذلك يأتي هذا المقطع الصوتي ضمن (تكتيكات أخذ زمام المبادرة)، ومن ضمنها تكتيك (التَّصَيُّد)، وهنا يَحسُن أن يكون مخططًا له، وأن نتوقع سلفًا ردّ فعل الاحتلال، فإن رفضه تجنّبنا تكبّد الخسائر، وإن كان قبوله مفاجئًا تنبّهنا لإمكانية أن يكون ملغومًا. كما كشفت كتائب القسام عن أهدافها ومصالحها صراحةً، باعتبار قضية الأسرى على رأس أولويات جهودها، وأنه لا يمكن لها أن تضيّع مزيدًا من الوقت في هذه القضية. ويجب أن يكون ذلك أيضًا على اعتبار أن الاحتلال سيقدم تنازلات مقابلها، ليس أقل من التلميح بإمكانية جلوسه للتفاوض.

استُخدمت أيضًا مجموعة من (تكتيكات ممارسة الضغط)، منها (تكتيك فرض الشروط المسبقة) على العدو، وأبرزها شرط فصل مسار مفاوضات الأسرى عن مسار مفاوضات الإعمار. كذلك (تكتيك إثارة الخلافات) بين القيادات الصهيونية الضالعة في ملف صفقة التبادل السابقة، إضافة إلى إبراز التناقضات العنصرية بين مكونات المجتمع الصهيوني ذاته، من خلال التطرق لحالة الجنديين الأسيرين "البدوي" و"الإثيوبي"، وتم تناول هذه الجزئية في التسجيل الصوتي المسرب، من خلال تساؤل الجندي عن سبب تمييز حكومته بين الجنود. هذا الاستفزاز يجب أن يُستخدم بحرص شديد، ولا بدّ من التأكد أن المقاومة ستحصل مقابله على مكسب مهم.

في المقابل امتنعت المقاومة عن استخدام تكتيكات الضغط الأخرى مثل (تكتيك التهديد)، والذي استعاضت عنه بعبارات تحذيرية إلى حدٍ ما، وذلك ضمن الحسابات الدقيقة للمقاومة في التعامل مع هذا الملف الحساس، مثل اعتبار ملف الأسرى بمثابة الصاعق والمفجر لمفاجآت أخرى، والتلميح بأن عنصر الوقت صار يشكّل عامل ضغطٍ أكبر على العدوّ. كما تجنّبت المقاومة عبر الإعلام استخدام تكتيك (أعلى سقف للمطالب) أو تكتيك (المطالب الكبيرة)، وهذا أمر محمود، لأن خلاف ذلك قد يتسبب للمقاومة بإحراجات مستقبلًا.

ربما لا يسعنا في هذا المقال تناول مزيد من الإشارات ذات العلاقة، لكن يبدو أن المقاومة الفلسطينية قد استفادت من التجارب التفاوضية السابقة، وأصبحت خطواتها محسوبة بدّقة. فهي تتبع سياسة الصبر والنفس الطويل، وتلعب على التناقضات لدى الاحتلال، وتحاول تفادى تكبّد أي خسائر بلا أثمان. لقد دفعت المقاومة الفلسطينية بالاحتلال الصهيوني لوضعه أمام الأمر الواقع، وبذلك لا بد أن يدرك هذا الاحتلال، أن خسارة استمرار معارضته للتفاوض على الصفقة، ستكون أكبر ماديًا ومعنويًا من خسارة عدم تقبله للأمر الواقع. ويبدو أن المقاومة الفلسطينية لا تزال تحتفظ في جعبتها ما سيُصدم به العدوّ ويتفاجأ به الصديق.