قبل عام وأكثر، في السَّابع عشر من نوفمبر، كان اللَّيل قد حلَّ على غزَّة، ولكنَّ ظلامه كان أكثر قسوةً من المعتاد، فكانت علياء مع أطفالها في منزل صديقة مقرَّبة، في انتظار بزوغ شمس جديدة تحمل لهم الأمل في الهروب إلى الجنوب بحثًا عن الأمان، لكنَّ الرِّياح كانت تجلب معها رائحة الموت، ففي لحظة غير متوقَّعة، سقط صاروخ بالقرب من المكان الَّذي كانوا ينامون فيه، استفاقت على صوت زوجها وهو ينطق بالشَّهادة، ليطمئنها في لحظة وداع أخيرة.
علياء زمو (44 عامًا) النازحة من شمال قطاع تمالك نفسها وهي تحاول إعادة شريط ذلك اليوم، فتسرد: "نزحت وعائلتي من البيت كون المربع السكنيّ يقع تحت تهديد القصف، فمكثتُ في بيت أخي بمنطقة المغراقة عدة أيام وعدت إلى غزة جلست عند صديقة مقربة وخططنا سويًا مع زوجي النزوح جنوبًا في الصباح مع اشتداد وتيرة القصف".
فالقنابل والمجازر لا تكاد تفرّق بين الليل والنهار، حيث كانت زمو تنام برفقة زوجها وأبنائها الخمسة في ذات الغرفة ليشعروا بالأمان، ولكن رائحة الغبار التي أزكمت أنوفهم وأطبقت على أنفاسهم أيقظتها على صوت زوجها ساهر وهو ينطق الشهادة، لم تكن تعلم أنه مصاب من حلكة الليل وانتشار الدمار في المكان.
"خذي الأولاد واطلعي بسرعة، أنا بخير"، كانت تلك كلماته التي غرزت في قلب علياء لتظن أنه لا يزال حيًا، لكن سرعان ما اكتشفت الحقيقة المروعة، فقد أصيب زوجها في القصف الذي أودى بحياته بعدما سقط صاروخ آخر بالقرب منهم.
تركت زمو المكان مع أطفالها في حالة من الذهول، لم يستوعبوا خبر استشهاده، ولكن الدماء التي كانت تسيل من قلبها كانت لا تُقارن بثقل خطواتها التي كانت تقودها نحو الجنوب، أما عيونها التي غمرتها دموع فقدان الحبيب كانت لا ترى سوى تلك الكابوس، كابوس فقدان الزوج والأب في لحظة واحدة.
تقول: "في السادسة والنصف دفنت زوجي، وبعد ساعة كنت أمشي مثقلة مع أبنائي نحو الجنوب، كانت دموعي تسبق خطواتي، وكلمات أبنائي تخلع قلبي من مكانه، "لو بابا معنا كان هيك ايدينا"، "لو شاف الناس بمشكلة كان وقف بينهم يطلب منهم الصلاة على رسول الله"".
كانت تسير تائهة وكأنها لا تعرف وجهة لها، رغم إدراكها أنها من المفترض أن تكون مصدر قوة لأبنائها الذين فقدوا قدوتهم في حياتهم.
تعيد شريط حياتها وعن علاقتها بزوجها الذي ارتبطت به بعد 6 سنوات من الخطوبة، فلم يكن زواجهما تقليديًا، وكان لها الأب والأخ والصاحب والسند.
وتضيف زمو: "استشهاده خسارة كبيرة لي، وغيابه مأثر عليّ بشكل مش طبيعي، لذلك افتقده في كل لحظة وثانية، خاصة في رعايته لصغيرنا يوسف المصاب بمتلازمة داون".
فابنته صبا البالغة من العمر 9 أعوام تفتقده في كل لحظة، وتسأل والدتها مرارًا وتكرارًا "كيف بابا تركني وأنا صغيرة؟ مش كان يحكيلي أنتي أميرتي؟ مين بده يمنكرني بعد استشهاده"، عدا عن أنها كلما تكون خارج البيت وتسمع أحد ينادي بكلمة بابا تعود لأمها باكية.
أما يوسف صغيره والذي ازداد حبه له بعدما اكتشف الأطباء أنه مصاب بمتلازمة داون وعمره شهرين، فلا يأكل ساهر قبل أن يطعمه، ويبحث بين الأوجه الكبيرة عن صورة والده، كان يتابع مع والدة يوسف وضعه الصحي.
تكمل زمو حديثها: "لا شيء يعوض غياب عمود البيت فلا حياة بعده، ولا يمكن لشيء أن يمحي مشاعر الخوف والقلق والحزن والفقد التي ملأت قلوبنا، فالوجع يفوق الوصف".
فقد كانت ترى زوجها كل شيء في حياتها، أصبحت فجأة وحدها في معركة الحياة الصعبة، ورحلتها الطويلة إلى الجنوب لم تكن فقط بحثًا عن الأمان، بل كانت أيضًا محاولة للنجاة من ظلال الموت الذي يطاردها في كل خطوة، لم تكن تعرف أن في طريقها المظلم هناك سيكون عليها أن تواجه حياة النزوح والتشرد، وهي وحدها الآن مع أطفالها، دون سند أو دعم.
وتشير إلى أن حياة النزوح أثرت كثيرًا على طفلها يوسف بسبب مناعته الضعيفة والتي على أثرها أصيب عدة مرات بأمراض جلدية، واحتياجات لتغذية خاصة في ظل عدم توفرها وغلاء الأسعار.
ورغم مشاعر الألم والحزن التي تسيطر على قلبها، إلا أن زمو تملك عزيمة تتمكن من خلالها على إعادة بناء حياتها، وتحمل مسؤولية أبنائها، ومحاربة قسوة الحياة بشجاعة.