قبل الإسلام بسنوات التقت جيوش كسرى قبيلة بني شيبان في معركة ذي قار، وكان العرب يظنون أن جنود كسرى لا يموتون، فهم خلق من نار، حتى إذا بدأت المبارزة، تمكن فارس عربي مبارز من طعن أحد المبارزين من جيش كسرى، فمات، فلم يصدق ما رأته عيناه، فصرخ بجملته الشهيرة: "يا قوم، إنهم يموتون!".
فإن كانوا يموتون؛ فإنهم ينهزمون، وهذا ما تحقق في معركة سيف القدس، إذ ألغى المفتش العام للشرطة الإسرائيلية مسيرة العلم الصهيوني، ليعلن بذلك هزيمة كاملة للأطماع الإسرائيلية بالمفهوم الدقيق للهزيمة، والفضل في هذا النصر يرجع لرجال المقاومة في غزة، وسواعد شباب القدس والضفة الغربية وصباياها، الذين برزوا لملاقاة الأعداء.
انكسرت الهجمة على القدس، المدينة التي تعلن صباح مساء أنها عربية إسلامية، ولا مكان فيها للمتطرفين اليهود، هذا هو مضمون قرار الشرطة الإسرائيلية التي حظرت على المتطرفين تنظيم مسيرة أعلامهم في القدس، لقد اتخذت قيادة الشرطة قرارها استجابة لتقدير موقف وزير الحرب الإسرائيلي نبي غانتس، الذي التقى في جلسة عاجلة قادة كل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية: الشاباك والموساد والاستخبارات والأمن القومي، والمستشار القانوني، وتوصلوا جميعهم إلى قرار مشترك، لا مجال فيه للمزايدات الحزبية؛ قرار يحذر من عواقب تنفيذ مسيرة الأعلام، وتأثيرها على الوضع الأمني العام، وعلى مستقبل المشروع الصهيوني.
لقد أدرك العدو الإسرائيلي أول مرة أنه يواجه قيادة فلسطينية جديدة، قيادة شابة، إن قالت فعلت، وإن هددت نفذت، قيادة تصفع بصواريخها (تل أبيب) بعد أن تحذرها عبر وسائل الإعلام، وقد أنذرت هذه القيادة بأنها ستشعل المنطقة، بل ستغير معالمها، لترسم الحدود الفلسطينية من جديد، وهذا ما فهمته القيادة الإسرائيلية، التي أيقنت أن المواجهة القادمة إذا حصلت، فإنها ستعطي نتائج عكسية لكل الحسابات الأمنية، لذلك تراجعت القيادة الإسرائيلية عن مسيرة العلم، رغم ما يحمله هذا التراجع من تأثير نفسي على فكرة قيام الدولة، ورغم ما يخلفه من تشكك بتحقيق الحلم الصهيوني، ورغم ما يحمله القرار من خضوع علني مهين لتهديدات المقاومة، وأثر ذلك على حياة الأعداء، بدءًا من مشروع التوسع الاستيطاني، ومشروع تقسيم المسجد الأقصى زمانيًّا ومكانيًّا، ومشروع ضم القدس نفسها عاصمة زائفة لدولة غير باقية، ليكون التراجع الإسرائيلي عن مسيرة العلم هزيمة سياسية تكشفت بالهزيمة العسكرية.
لقد أراد المتطرفون بمسيرة الأعلام اختبار القدرة الفلسطينية، أرادوا التحقق من تصريحات قادتهم عن تدمير قدرة المقاومة في غزة، فاكتشفوا هذا اليوم الحقيقة، وتأكد للمتطرفين والأكثر تطرفًا أنهم أمام شعب عنيد، فرض عليهم قرار التراجع عن المسيرة، رغم أن المنظمين لها هم من وزراء الحكومة، ومن أعضاء كنيست متحالفين مع الحكومة، لذلك حاول بعض الإسرائيليين أن يربط بين تنظيم المسيرة وإعاقة التصويت على الحكومة الجديدة، في مناورة سياسية داخلية، ليكون موقف الشعب الفلسطيني الذي توحد خلف المقاومة هو الحاسم، وهو القرار الفصل الذي صفع وجه المتطرفين، وقدم الدرس العملي لقومٍ يفقهون.
درس الهزيمة للمخطط الصهيوني في القدس يرسم معالم مرحلة فلسطينية قادمة، ستكون فيها كلمة الفصل لفصائل المقاومة، ولا سيف يعلو على سيف القدس، فآلية إعمار غزة يجب أن تمر من تحت سيف القدس، وصفقة تبادل الأسرى سيحدد معيارها سيف القدس، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني يجب أن تتحقق وفق إرادة الرجال الذين حملوا سيف القدس، ومازالوا يلوحون بحده، فالذي استطاع أن يفرض منطقه وموقفه على أقوى جيوش المنطقة لن يعجزه مواجهة الرافضين إنهاء الانقسام، والمعاندين لإعادة ترتيب منظمة التحرير الفلسطينية وفقًا لإرادة المقاومة، لتعود المنظمة هي الحضن الوطني الدافئ لكل المقاومين للاحتلال الإسرائيلي.
اليوم نستطيع أن نقول: انتهت المعركة الصغرى على بوابات القدس بهزيمة العدو الصهيوني، وبدأت المعركة الكبرى مع محمود عباس لترتيب البيت الفلسطيني.