حققت المقاومة الفلسطينية إنجازات واضحة في الجولات القتالية التي استمرت على مدار العقدين الأخيرين، منذ اندلاع انتفاضة الأقصى، التي شاركت فيها كل شرائح الشعب الفلسطيني.
واتسم هذان العقدان بتطوير القدرات العسكرية الهجومية الفلسطينية، داخل قطاع غزة على وجه التحديد، الأمر الذي قابله تطوير في قدرات الاحتلال الدفاعية، ويمكن القول إن القبة الحديدية هي رمز التطوير للقدرات الدفاعية الإسرائيلية.
تمكنت المقاومة الفلسطينية في الجولة الأخيرة (سيف القدس) من تحدي القبة الحديدية، وإضعاف قدرتها، وبالتالي الوصول إلى أهداف لم تكن تتمكن من بلوغها في المعارك السابقة، إضافة إلى إنجازات أخرى لمسها كل من تابع المعارك التي دارت بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال، ولا داعي لتعدادها هنا، لكن العبرة من التطرق إلى هذه المسألة تتمثل في أن المقاومة الفلسطينية استطاعت بفضل جهدها وتحالفاتها واحتضان الشعب لها أن تُحقق إنجازات صفعت القدرات الدفاعية للاحتلال، بل إنها أفشلت القدرات الهجومية لجيش الاحتلال المتمثلة في الطيران الأمريكي الحديث والعالي التقنية.
بعد أن تضع الجولات القتالية أوزارها تبدأ القبة السياسية التي أخذت على عاتقها حماية الاحتلال، وتقليل خسائره المادية والمعنوية والسياسية؛ تبدأ هذه القبة العمل لتقليل مكاسب المقاومة السياسية والمعنوية، ويقف على رأس هذه القبة السياسية الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من العرب والفلسطينيين، وأثبتت هذه القبة حتى اللحظة قدرتها على تحجيم مكاسب المقاومة، وإعادة عقارب الساعة السياسية في كل مرة إلى ما قبل اندلاع المواجهات العسكرية، فهل ستتمكن هذه القبة السياسية من فعل الشيء نفسه هذه المرة؟ أم أن المقاومة ستستطيع اختراق هذه القبة السياسية وإضعاف أثر ضغطها، كما فعلت مع القبة الحديدية؟
تتمثل ترتيبات القبة السياسية في هذه اللحظة في المسائل والإجراءات التالية:
أولًا: تأكيد شرعية قيادة محمود عباس للشعب الفلسطيني، رغم أن هذا الرجل فقد كل أنواع الشرعيات الفلسطينية على صعيد القانون، والمقاومة، والمشروع السياسي، والكفاءة في إدارة شئون البلاد وحماية مصالح العباد، فهل ستنجح القبة السياسية في فرض محمود عباس ممثلًا رسميًّا للشعب ومحتكرًا للقرار الوطني الفلسطيني؟
ثانيًا: تُصر القبة السياسية على إحياء ما يُسمّى (حل الدولتين)، هذا الحل الذي ثبت فشله، وتأكدت استحالة ترجمته إلى واقع بسبب الوقائع التي فرضها الاحتلال على الأرض بإجراءات الاستيطان والضم والتهويد في الضفة الغربية، فهل سيبقى الشعب الفلسطيني ومقاومته أسرى لهذا المشروع أو الرؤية الفاشلة؟ أم أنه سيتمكن من فرض رؤى أخرى مختلفة وأكثر قابلية للنجاح، ولو على المدى الطويل؟
ثالثًا: تُصر القبة السياسية على منح "الشرعية" لمنظومة أوسلو التي يديرها فلسطينيون، وتحاول بكل قوة إجبار كل الفاعلين الفلسطينيين على الانصياع لهذه المنظومة، وإلا فإن مصيرهم القمع والإقصاء والشيطنة، فهل ستبقى منظومة أوسلو جاثمة على صدر الشعب الفلسطيني، مانعة إياه من اختيار طرق وأساليب بديلة؟ أم سيتمكن تيار المقاومة من تصحيح المسار؟
رابعًا: تُصر القبة السياسية على تجفيف منابع تيار المقاومة، فإن لم تستطع فإنها تُضيق شرايين وصول الدعم لتيار المقاومة وحاضنته الشعبية بتضافر الجهود السياسية والتشريعية والأمنية والتحالفات بين الدول، وتفتح قناة وحيدة للمال الذي لا يصل إلا بشروط القبة السياسية، وتفرض العقوبات على من يتحرك ماليًّا بعيدًا عن هذه القناة، فهل ستتمكن القبة السياسية من التحكم في هذه المجالات؟ أم أن تيار المقاومة سيتمكن من تخليق قنوات بديلة؟
إن كل المؤشرات منذ انتهاء معركة سيف القدس تُفيد أن القبة السياسية تُصر على اعتماد الأسلوب نفسه، فبدلًا من تبني الأطراف العربية في هذه القبة مطالب الشعب الفلسطيني بلجم الاحتلال في القدس وبقية الضفة الغربية، إنها تترك الاحتلال يسرح ويمرح، ولا تكف عن مطالبة المقاومة الفلسطينية بالاستجابة لمطالب الاحتلال بتحقيق الهدوء، مع أن الاحتلال لا يزال يمارس العدوان، بل يُصعّد، خاصة على صعيد تدنيس المسجد الأقصى بالاقتحامات، وعلى مستوى البناء في المستوطنات.
فماذا ستفعل المقاومة الفلسطينية؟ هل ستتفاهم المقاومة مع القبة السياسية؟ هل هذا ممكن؟ بمعنى هل بإمكان الطرفين (المقاومة والقبة السياسية) إيجاد مساحة للتفاهم والتعايش؟ أم أن القبة السياسية ستُضاعف جهدها لإلحاق هزيمة ساحقة بالمقاومة بالخنق والتضييق على أمل أن ترفع المقاومة الراية البيضاء؟ أم أن المقاومة ستتجاوز قدرة القبة السياسية على حصارها، وستتمكن من إيجاد طُرق للعمل رغم كل القيود؟
يمكن القول إن عقدين من الزمان انقضيا والمقاومة الفلسطينية تبحث عن سُبُل التفاهم مع القبة السياسية، لكن القبة السياسية أظهرت في هذين العقدين عقائدية منقطعة النظير، وقدرة عالية على تبديل الوسائل مع الاحتفاظ بالأهداف نفسها، وتماسكًا في محورها لا يترك أي ثغرة إلا إذا كان من باب تنويع الوسائل الخادم للأغراض ذاتها، وهي -أي القبة السياسية- تُصر على المواقف والإستراتيجيات ذاتها.
لا يمكن التخلص من تأثيرات القبة السياسية، والسعي للتغلب عليها إلا بجُهد مشترك يقوم به كل المؤمنين بحقوق الشعب الفلسطيني، وجميع الذين يعتقدون أن تحرير فلسطين هو واجب على كل الأحرار، أما أن تُترك المقاومة الفلسطينية وحدها في ميدان العمل السياسي فهذا سيُبقيها محاصرة، وسيُعيق سعيها نحو تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال.
لقد استطاعت المقاومة أن تستقطب كفاءات لتطوير العمل العسكري، مارست المقاومة هذا العمل تحت الأرض، بتجنيد الأموال أو الخبراء، لكن العمل السياسي يحتاج إلى عمل فوق الأرض، وأمام شاشات التلفاز، وفي المؤسسات الدولية، ومن طريق مؤسسات المجتمع المدني، وبتفعيل الدبلوماسية الشعبية، وحملات التشبيك والمناصرة والضغط.
إن إنجاز المقاومة سياسيًّا، كما أنجزت عسكريًّا، يتطلب تحالفًا واسعًا من جانب الأحرار في كل مكان، وهذا التحالف هو أكثر من ضروري لتحقيق حرية الشعب الفلسطيني واستقلاله