بدا واضحاً من تصريحات إدارة الرئيس بايدن تأكيدهم تمسُّكَهم بالموقف التقليدي للولايات المتحدة تجاه حركة حماس ورفض التعامل معها مباشرة. وقد عمد وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن إلى تأكيد هذا الموقف منذ الأيام الأولى للمواجهة.
إلا أن إدارة بايدن شجعت حلفاءها الإقليميين على ضرورة التواصل مع حماس وحثّها على وقف إطلاق النار. وهي الحقيقة التي لم تستطع إدارة بايدن تجاوزها بأن حماس باتت تلعب الدور الأهمّ في الصراع، بخاصة بعد تثبيت حماس معادلتها الجديدة في استخدام سلاحها ليشمل كل القضايا الوطنية الفلسطينية وبشكل مباشر ومعلن.
الحراك السياسي الدولي والإقليمي الذي رافق معركة "سيف القدس" الأخيرة ينبئ بما لا يدع مجالاً للشك أن حماس استطاعت أن تكسر حالة العزلة التي سعى الاحتلال وحلفاؤه في المنطقة لفرضها عليها، وهو ما تعزز في فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
كما ألقت المواجهة الأخيرة بين (إسرائيل) وحماس في قطاع غزة بتداعيات كبيرة على مشهد الصراع على المستوى الدولي، إذ دفع تطور الأحداث في القدس وغزة إدارة الرئيس بايدن إلى تقديم قضية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني على سُلَّم أجندتها على غير رغبة منها.
كما فرضت النتيجة النهائية للجولة، المتمثلة في قدرة المقاومة في غزة على التصدي لدولة الاحتلال والحدّ من قدرتها على تحقيق أهداف سياسية وميدانية وعدم قدرة الاحتلال على تقديم رواية متماسكة دولياً، تدخلاً أمريكياً عاجلاً لاحتواء الموقف الميداني والتوصل إلى وقف إطلاق نار متبادَل ومتزامن بين الجانبين.
وترى حماس أنها استطاعت أن تسجّل عدة نقاط لصالحها في هذه الجولة، مما يتطلب أن ينعكس ذلك لمكاسب سياسية تجنيها الحركة لضمان استمرار وقف إطلاق النار، وهو ما عبّرَت عنه قيادات حماس في تصريحاتهم بعد وقف إطلاق النار. وترى حماس أن الجولة الأخيرة "أنهت مرحلة مضت وبدأت مرحلة جديدة"، وأنها "استطاعت أن تُعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة وصدارة الأحداث الدولية".
في الجانب الآخر بدت الصورة مغايرة لدى حكومة الاحتلال وقيادة الجيش، إذ تَعرَّضت لانتقادات واسعة وحادَّة من المحللين والكُتَّاب في الصحافة الإسرائيلية، لعدم قدرة الحكومة على تحقيق إنجازات حقيقية يمكن التدليل عليها، كوقف الصواريخ أو تعريض بنية المقاومة في غزة لخسائر كبيرة أو اغتيال قيادات بارزة في حماس. ومما عمَّق أزمة حكومة الاحتلال اشتعال مدن الداخل الفلسطيني باحتجاجات ضد سياسات حكومة الاحتلال في القدس والعدوان على غزة.
ولقد أثارت هذه النتائج مخاوف لدى سياسيين وخبراء استراتيجيين في الولايات المتحدة الأمريكية حذروا من أن الجولة الأخيرة من الصراع تكشف هشاشة لدى دولة الاحتلال وتثير تساؤلات حول مستقبل الحليف الأبرز للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. وتطرق عديد من الخبراء الأمريكيين والإسرائيليين خلال الأيام الماضية إلى جوانب من القلق لدى الحليفين إزاء مكاسب حماس الجديدة، وسبل محاصرتها.
وفور إعلان وقف إطلاق النار في غزة، ظهرت ملامح استراتيجية تتبناها الولايات المتحدة وحليفتها (إسرائيل) لمحاولة احتواء المكاسب التي يمكن لحماس أن تجنيها من المواجهة الأخيرة.
كلمة السر في تصريحات المسؤولين الأمريكيين ومسؤولي دولة الاحتلال وأطراف أوروبية وعربية تمثلت بـ"دعم السلطة" التي يقودها محمود عباس. ويعزز ذلك فرضية أن السلطة الوطنية الفلسطينية تَحوَّل دورها مع الزمن إلى دور وظيفي تتداخل فيه مصالحها مع مصالح الاحتلال أكثر من كونه أداء لخدمة مصالح الشعب الفلسطيني.
ويُستخدم في تمرير هذه الاستراتيجية قضايا كالمصالحة وتعزيز الوحدة الوطنية. ومن جملة ذلك، ما يطرحه محمود عباس برغبته في تشكيل حكومة وحدة وطنية "تحظى بقبول دولي". ويُطرح هنا تساؤل حول جدية رئيس السلطة محمود عباس في تحقيق هذه الملفات وهو الذي تذرع "بالقدس" ليؤجّل الانتخابات الفلسطينية التي أضاع الفلسطينيون أشهراً طويلة في انتظارها. الأمر الذي يُظهِر جلياً الطريقة التي توظّف فيها السلطة الفلسطينية قضايا الوحدة الوطنية والانتخابات لتنفيذ مناورات داخلية تهدف إلى كسب مزيد من الوقت وشرعنة مكوث محمود عباس رئيساً للسلطة.
الدور المطلوب من السلطة في هذه الاستراتيجية (احتواء مكاسب حماس) هو الحيلولة دون تواصل الأطراف الدولية المباشر مع حماس، لما يعنيه ذلك من اعتراف بها كفاعل رئيسي في الصراع وتغيير في قواعد اللعبة وتعزيز نقاط القوة للشعب الفلسطيني.
كما تسعى الأطراف الدولية لكي لا تستفيد حماس من برنامج إعادة الإعمار في غزة بما يعزّز مكانتها محلياً ويخفّف الحصار عنها في غزة، وهو الأمر الذي أكده وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن في زيارته الأخيرة للأطراف، وتتبناه دولة الاحتلال الإسرائيلي كمحدّد رئيسي حتى لا تعوق عملية إعادة الإعمار في غزة.
تواجه هذه الاستراتيجية جملة من التحديات، أبرزها سيطرة حماس الكبيرة في قطاع غزة وتنامي شعبيتها فلسطينياً، بخاصة بعد الجولة الأخيرة، مقابل تراجع شعبية رئيس السلطة محمود عباس وفريقه.
إلا أن التحدي الأهمّ الذي يحول دون تطبيق هذه الاستراتيجية وتفعيل العامل الأساسي فيها، وهو "دعم سلطة محمود عباس"، هو موقف قوى المقاومة نفسها.
فمن المستبعد أن تشترك المقاومة في استراتيجية تهدف إلى احتواء مكاسبها من قبل أعدائها وتقليل حجم الإنجاز الفلسطيني الذي تَحقَّق، وهذا يتطلب من حماس أن تفوّت الفرصة على مناورة جديدة يستعدّ لها محمود عباس وفريقه، وهي المناورة التي، من الآن، لن تُفضِي إلى أي تحوُّل جوهري في المشهد السياسي الفلسطيني على غرار عقد انتخابات تمسّ مكانة رئيس السلطة محمود عباس والمجموعة المتنفذة فيها. فمن غير المعقول أن تتطابق استراتيجية المقاومة مع استراتيجية أعدائها والالتقاء على مربع "دعم سلطة محمود عباس".
وعلى الرغم من أن حالة من الإجماع بين أطراف دولية وإقليمية بالإضافة إلى الاحتلال على تبني هذه الاستراتيجية، فإن موقف قوى المقاومة في طريقة التعامل مع السلطة في مرحلة ما بعد "سيف القدس" هو محوري وأساسي في نجاحها من عدمه. وحول تأثير ذلك في ملف إعادة الإعمار، سيكون من الأجدر لقوى المقاومة الإصرار على رفض ربط أي من المسارات الأخرى بمفاوضات تثبيت وقف إطلاق النار، بما في ذلك العلاقات الفلسطينية الداخلية وتبادل الأسرى. فهذه الجولة من الاشتباك مع الاحتلال لها أهداف متعلقة بوضعية القضية الفلسطينية ومحاولات تصفيتها، وقضية القدس وسعي الاحتلال لتهويد أحيائها الفلسطينية وفرض سيطرته على المسجد الأقصى.