كثيرون الذين يتحدثون عن قرب نهاية (إسرائيل)، ويؤكدون حديثهم بشواهد التاريخ، وسنن الحياة، ويربطونها ببعض إرهاصات تراجع المشروع الصهيوني. لكن أحداً لم يقدِّم تصوراً واضحاً لكيفية التصرف باليهود المحتلين بعد هزيمتهم، وآلية التصرف بالأموال التي جمعوها طوال احتلالهم لفلسطين. لم يقدِّم أحدهم تصوراً لكيفية توزيع الأراضي على العائدين؛ ولاسيما أن مدناً نشأت على أراضي مجموعة من القرى العربية المهجَّرة، ومنشآت استراتيجية أقيمت على أراضي عائلات، فهل من المناسب الاكتفاء بالقول: "عودة اللاجئين إلى بيوتهم وممتلكاتهم"؟ وهل من الجائز تفكيك تلك المنشآت الاستراتيجية؛ كمحطات الطاقة، والموانئ، والمطارات، ومحطات معالجة المياه العادمة، والطرق العابرة لفلسطين، وغيرها، من أجل استعادة العائدين لأراضيهم المقام عليها تلك المنشآت؟
إن قضايا كُثرًا ستكون محط إشكال كبير فور هزيمة المحتلين وخروجهم من البلاد، وعلى المخططين الاستراتيجيين أن يضعوا تصوراً واضحاً لحل كل تلك الإشكالات الآن، وفي وقت السعة، قبل أن ينشغل المسئولون في إجراءات التحرير، ومعركة التحرير الفاصلة؛ ففي تلك الحالة لن يتمكن أحد من وضع استراتيجيات، ولا إيجاد حلول، فالكل منهمك في المعركة الفاصلة. إن التفكير السليم يقضي بأن نبحث كل قضايا الوضع المؤقت الذي سيلي التحرير مباشرة، فنضع تصوراً واضحاً وخطة لكل شيء، وألا نترك شيئاً للصدفة أو الارتجال.
بمجرد بدء التفكير في أوضاع ما بعد التحرير، سيدرك الجميع أننا لا نؤمن – حقيقة – بالتحرير، لأن الإيمان الحقيقي يحتاج إلى عملٍ يصدِّقه. وعلى سبيل المثال: هل لدينا الجاهزية لتشغيل محطات توليد الكهرباء التي سنستخلصها من أيدي الأعداء؟ وهل عددها معلوم لدينا على وجه الدقة؟ وهل نعرف تماماً كم تحتاج من عاملين لإدارتها، وكم تحتاج من وقود ومن أين نأتي به في تلك اللحظات. وكيف نحافظ على تلك المحطات من النهب والتخريب، فكم عنصر أمن نحتاج لتأمينها. وهل لدينا الجاهزية الفنية والبشرية لضمان عمل تلك المحطات بالشكل الملائم عبر شبكات الكهرباء، بحيث يتم إصلاح الأعطال التي ستسببها الحرب، وضمان وصول الكهرباء إلى كل القطاعات الحيوية، وبالذات محطات ضخ المياه العادمة، ومحطات ضخ مياه الشرب والري، وتشغيل المخابز، والمستشفيات، كمؤسسات لا تنتظر التأخير أو التعطيل. هذه مسألة واحدة بين عشرات المسائل التي من الواجب معرفة أدق تفاصيلها، ووضع تصور فعّال لضمان سير العمل والاستفادة القصوى من المؤسسات، والمنشآت، والأبنية، والأراضي المزروعة، والثروات.
إن هذا المثال وحده؛ كافٍ لإظهار عجزنا عن مواكبة متطلبات التحرير، وإلى أي مدى نحن حالمون، واتكاليون، لم نأخذ بالأسباب، ونتمنى على الله أن ينصرنا.
لقد مرّ قطاع غزة بتجربة جزئية لمسرح التحرير، ذلك عندما قرر العدو – بفعل ضربات المقاومة، وارتفاع تكاليف احتلاله – تفكيك مستوطناته في القطاع، لم نتجهّز لذلك، وغمرتنا الفرحة بطريقة طفولية، لنفاجأ بعد انسحاب العدو أننا لم نكن جاهزين لشيء، فقام الأهالي وبطريقة لا إرادية بتحطيم ما تبقى من مقدرات، ونهبها، بحيث لم نستفد مما تركه العدو وراءه بشيء. فهل يعتقد أحدٌ أن ما جرى في قطاع غزة هو شكل مقبول؟ وإذا كان الجميع رافض لهذا الشكل، فهلّا أعددنا خططنا باكراً لنتحاشى مصيراً مشابهاً لمقدرات فلسطين عند تحريرها وخروج العدو منها مدحوراً؟
إن من أخطر المسائل التي تستوجب على المؤمنين بالتحرير أن يتجّهزوا لها من الآن، مسألة السيادة. فمن هي الجهة السيادية التي ستكون لها الكلمة عند انتهاء عملية التحرير؟ هل هي منظمة التحرير الفلسطينية، أم السلطة الفلسطينية، أم الفصائل الوطنية والإسلامية، أم منظمة المؤتمر الإسلامي، أم جامعة الدول العربية..؟ إلخ إن كل الجهات المذكورة – باستثناء عددٍ قليل من الفصائل الفلسطينية – لا يؤمنون أصلاً بالتحرير، وبالتالي هم غير جاهزين لمتطلباته وتوابعه، فمن ذا الذي يدعي إيمانه بالتحرير، وأين تحضيراته؟ ألا يقتضي الأمر منا أن نعمل مبكراً على تشكيل هيئة سيادية يكون لها القول الفصل في الفترة الانتقالية بُعَيْد التحرير، كي لا نترك فراغاً سيادياً تملؤه حكومات أو منظمات لا تستحق أن تكون في المشهد السياسي آنذاك؛ لأنها كانت ضد التحرير وضد القائمين عليه، ولا يجوز أن يكون لهم أي وضع سياسي في فلسطين بعد تحريرها بأي حال من الأحوال.
إن فرحة الشعب الفلسطيني ولاجئيه بالتحرير ستجعلهم يتدفقون كالنهر الجارف نحو أراضيهم المحررة، قد يجد بعضهم ناطحة سحاب أُقيمت على أرضه، أو مطاراً، أو مصنعاً، أو محطة كهرباء، وما شابه، فهل يحق له التصرف بهذه المقدرات بدعوى أنها أُقيمت على أرضه؟! ألا يجب أن يسود منطق النفع العام؟ فمن سيكون لديه الوقت آنذاك ليقرر كيفية التصرف بالمقدرات، وكيفية تعويض الأهالي عن أراضيهم المقام عليها تلك المنشآت الاستراتيجية؟ إن ملايين من اللاجئين العائدين بحاجة إلى شقق ومنازل تؤويهم على وجه السرعة، فكيف يمكن تنظيم عملية توزيع عادلة وسريعة للشقق والبيوت على العائدين، إلى أن يتم الفصل في مصير أراضيهم، وإقرار الشكل النهائي للتعويض. والسؤال المنبثق عن ذلك: مَن يحصي تلك الشقق والبيوت في ارجاء فلسطين، وكيف ستتم عملية التوزيع، وعلى أية أُسس، ومَن يحميها من النهب أو التخريب، وكيف تتم عملية تسجيل هذه المقرات المؤقتة بأسماء شاغليها، وأين وكيف يتم حفظ تلك المعلومات والسجلات؟
خلاصة القول: إن على الذين يدّعون إيمانهم بالتحرير وقربه، أن يراجعوا إيمانهم بذلك، لأنهم حتى اللحظة ما هم إلا مجرد حالمين، لم يقوموا بمتطلبات التحرير ولم يُعِدّوا للأمر عُدّته. وإن مَن يريد القتال لا يصنع سلاحه عند بدء المعركة. فهل من متّعِظ؟!
من أجل ذلك كله كانت الدعوة لمؤتمر "وعد الآخرة وعودة الأرض" الاستشرافي الاستراتيجي، تابعوه على الفيس بوك (هيئة وعد الآخرة) (hareafterpromise) وبريده الإلكتروني/ [email protected]