اللقاءات الفلسطينية الأمريكية في رام الله إهانة سياسية بمفهوم الإهانة، وتحقير للدم الذي نزف على أرض غزة، واستخفاف بثورة القدس وشبابها، وتجاهل لانتفاضة الضفة الغربية وشهدائها وشهداء حراس فلسطين عام 48، لقاءات رام الله التي تجاوزت من استل سيف القدس، ولم تسمح لهم بفرض منطقهم السياسي، تلك اللقاءات تبهيت للنصر الذي صفق له كل العرب والمسلمين وشرفاء العالم، وتجاهل لأصحاب القضية الذين دافعوا عن وطنهم بدمائهم وأولادهم وبيوتهم.
لقد التقت القيادة الإسرائيلية وقيادة السلطة مع القيادة الأمريكية على هدف واحد، وهو محاصرة حركات المقاومة في قطاع غزة، ليكون الهدف من كل الزيارات واللقاءات والمقابلات هو خنق غزة، وبسط نفوذ السلطة على المكان الذي عجز جيش الاحتلال الإسرائيلي عن الاقتراب منه بكل أسلحته ومعداته، وهذا الأمر يستوجب وقفة جدية من الشعب الفلسطيني أولًا، ومن المؤسسات والتنظيمات والكفاءات والشخصيات الوطنية، فمن العار أن يظل حال فلسطين على ما هو عليه بعد كل هذا النصر، ومن العار أن يظل محمود عباس هو صاحب القرار، والمتصرف الوحيد بالشأن الفلسطيني، ومن العار أن تصمت القوى والكفاءات عن هذه الإهانة والتحقير والتسخيف لنضال شعب، تم قصر تضحياته بمبالغ مالية أقرب إلى الصدقات، ستقدم إلى غزة، ومبالغ مالية بمنزلة رشوة ستقدم إلى الضفة، متجاهلين أن الذي استل سيف القدس كان يهدف إلى تحقيق إنجاز سياسي، وليس تحقيق بعض المكاسب المالية لهذا الوزير أو ذاك الغفير.
لقد هرولت الإدارة الأمريكية إلى المنطقة ليس حبًّا بفلسطين، ولا رحمة بشعبها، ولا شفقة على الجرحى، وتحسرًا على الدمار، ولا خوفًا من سيف محمود عباس الأمني، لقد هرولت الإدارة الأمريكية ممثلة بوزير الخارجية لتبحث عن أسرع الطرق للالتفاف على المقاومة، وتقويض إنجازاتها، وعدم السماح للشعب الفلسطيني بأن يرفع رأسه، ويتطلع إلى حريته من خلال بندقيته، وكانت أقصر الطرق لتحقيق الهدف الصهيوني هو محمود عباس، الذي أعلن على الفور أنه سيشكل حكومة وحدة وطنية مع كل تنظيم يعترف بشروط الرباعية، أي مع أي تنظيم يعترف بـ(إسرائيل)، ويرى في التعاون الأمني مع المخابرات الإسرائيلية مقدسًا، وهذه الخلاعة السياسية لا يقبل بها أي تنظيم حر وطني، ويمتلك القدرة على قصف تل أبيب.
من المؤكد أن كل تنظيمات غزة المقاومة سترفض مثل هذه الحكومة القزم، وليس أمام عباس إلا تشكيل حكومة تشبه حكومة "فيشي" في فرنسا، حكومة على رأس مهماتها التعاون مع المحتل، ومحاربة المقاومة، هذه الحكومة المنوي تشكيلها تهدف إلى الالتفاف على الانتخابات، والتحايل على الشعب الفلسطيني، تحت مسمى حكومة الإعمار، وهنا لا بد من العودة إلى الاتفاقية التي وقعتها سلطة محمود عباس مع الإسرائيليين سنة 2014، بهدف الإشراف على إعمار غزة، وحملت اسم (JRM)، تلك الاتفاقية التي سمحت للمخابرات الإسرائيلية بالإشراف المباشر على كل بيت أو شارع أو مؤسسة أُعيد بناؤها، وسمح للأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالإشراف على كل كيس اسمنت يدخل إلى غزة، وفرضت على المقاولين أن يضعوا كاميرات تصوير داخل المخازن، وسط مدينة غزة، هذه الكاميرات كانت متصلة مباشرة بمقر المخابرات الإسرائيلية، وقد فرضت الاتفاقية على المقاولين وجود كهرباء في المخازن لمدة 24 ساعة، كي لا تسهو عين المراقب الإسرائيلي عن كل داخل وخارج إلى مخازن المقاولين المشرفين على الإعمار، تلك الاتفاقية التي كان يجب أن تنتهي بعد ستة أشهر، ظل العمل بها ساريًا حتى يومنا هذا، بموافقة السلطة، ولما تزل قاعدة العمل الذي ستنطلق منه السلطة لإعمار غزة.
ورغم ما ذكرت من مخازي الاتفاقية، فإن الأقذر في اتفاقية (JRM) هو: عدم تقديم المستخلص المالي للمقاولين إلا بعد الحصول على الموافقة الإسرائيلية، وهنا يقع المقاول تحت الابتزاز الأمني من قبل المخابرات الإسرائيلية، ويقع تحت الابتزاز المالي من قبل رجال السلطة، ليجد المقاول نفسه مجبرًا على تنفيذ الأوامر الإسرائيلية، فهو يريد أن يتمم المشروع، ليتسلم أمواله، وكل إعاقة تعود عليه بالخسائر.
لقد حدثني المقاول خليل حمدان أبو شمالة، أنه اضطر لأن يدفع إلى سكرتيرة الطيب عبد الرحيم عقدًا من الذهب، كي تقدم أوراقه ومستنداته إلى شركة سند للمؤسسات الإنشائية، والتي كانت تشرف على توزيع الإسمنت على المقاولين، فإذا كان عقد الذهب من نصيب سكرتيرة، فما هو نصيب المسؤول؟ الذي يتعمد ابتزاز المقاولين، وفتح باب التكسب للمسؤولين الفلسطينيين على حساب سرعة الإعمار، الذي تباطأ منذ سنة 2014، ولعل عدم استكمال البرج الإيطالي في غزة حتى يومنا هذا خير دليل على السرقة والابتزاز.
إن الإصرار على رفض إشراك السلطة في عملية الإعمار لا يقل وطنية عن إطلاق الصواريخ على تل أبيب، ومن الكبائر أن تتساهل فصائل المقاومة في هذا الأمر، وتمرر المخطط الإسرائيلي والأمريكي الهادف إلى محاصرة غزة من خلال السلطة، فمن حاصر غزة، وفرض عليها الإجراءات العقابية، ومن كان معبرًا للدمار، لا يمكن أن يكون جسرًا للإعمار.
القضية الفلسطينية قضية شعب مقاوم للعدوان، ومن الخطأ اختصار مطالب شعب بحفنة دولارات، قضية فلسطين سياسية، والمطالبة بإنهاء الاحتلال أولى من إعادة الإعمار وفق الشروط المذلة، ورجال غزة قادرون على تشكيل المجلس الوطني لإعمار غزة، تشارك فيه الحكومة والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، وما دون ذلك هو لهاث في صحراء من العدم والتدليس، تشرف على اتساعها المخابرات الإسرائيلية.