بعد سقوط مدينة عكا في أيدي الصليبيين في 17 جمادى الآخرة سنة 587هـ بعد ملحمة رائعة من الصمود والتحدي استمرت ثلاث سنوات متصلة واجه المسلمون فيها أعنف الحملات الصليبية على الإطلاق وهي الحملة الثالثة على بلاد المسلمين, وكان السلطان الناصر صلاح الدين قد أعاد ترتيب جيوشه لينازل جيوش الصليبيين أثناء سيرهم في الساحل وقام المسلمون بغارات كثيرة على أطراف جيوش الصليبيين فأخذوا وغنموا منهم الكثير.
أسرع ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد وكان مقيمًا بعكا وانضم للصليبيين لحمايتهم من غارات المسلمين المتتالية فاشتد ساعدهم ووصلوا إلى مدينة حيفا وأخذوها وعسكر المسلمون أمامهم، ودار القتال عدة مرات بين الفريقين وفي معظم الأحيان كانت الصولة والدولة للمسلمين.
وصل صلاح الدين إلى الرملة وجمع أمراءه واستشارهم فيما يفعل والصليبيون يسايرونهم من بلد لآخر، ولو استمر الحال هكذا لأخذ العدو سائر بلاد الساحل، فأشار عليه الأمراء بتخريب مدينة عسقلان وكانت أكبر مدينة في هذه المنطقة وبها قلاع حصينة وأسوار منيعة وهي شديدة التحصين لو أخذها العدو ستكون شوكة في جنب المسلمين ونقطة انطلاق لغارات الصليبيين على باقي بلاد الشام, وقال الأمراء: "قد رأيت ما كان منا بالأمس وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلوننا لننزاح عنها وينزلون عليها وحدث مثلما حدث في عكا"، وتضايق صلاح الدين من ذلك بشدة وأبى أن يخربها بيده وندب الناس للدفاع عنها والدخول فيها وحفظها ولكن الأمراء والجند الذين عضتهم الحروب المتصلة ضد الصليبيين منذ أكثر من عشر سنوات لم يوافقوا على ذلك وامتنعوا بشدة واشترطوا للدخول أن يدخل صلاح الدين معهم هو وأولاده جميعًا للدفاع عنها فقال لهم صلاح الدين: "لذهاب جميع أولادي أحب إلى من نقض حجر واحد من هذه المدينة العريقة"، وبات ليلته يفكر في القضية ثم أصبح وقد أخذ قرارًا بتخريبها لمصلحة المسلمين.
أصدر الناصر أمره بتخريب المدينة في 19 شعبان سنة 584 هـ فظلت النار تعمل في المدينة حتى أتت عليها كلها في 1 رمضان سنة 587هـ وبكى الناصر على حرقها وبكى المسلمون معه لفقد مدينتهم الجميلة التي كانت دارًا لهم لمئات السنين ولكن المصلحة كانت في ذلك حتى لا يأخذها العدو. ثم غادر صلاح الدين المدينة هو وجيشه في الثاني من رمضان سنة 587هـ/1191م. وهكذا طبق صلاح الدين نموذجًا عمليًا لفقه الواقع والموازنة بين المصالح والمفاسد.