من بعيد، يبدو أن شروط المقاومة لوقف إطلاق النار مع العدو الإسرائيلي غير قابلة للتحقيق، ولا سيما أن العدو الإسرائيلي قد اشتغل عشرات السنين للفصل بين غزة والضفة الغربية، والفصل بين الضفة الغربية والقدس وبقية الأراضي الفلسطينية المغتصبة سنة 48، وقد حرص العدو على تضمين ذلك الفصل في اتفاقية أوسلو الموقعة سنة 1993، فهل سيوافق العدو على خسران كل تلك السنين التي حرص خلالها على فصل القدس عن محيطها العربي؟ هل سيخضع العدو لشروط المقاومة، ويوافق على ربط التهدئة مع غزة بالتوقف عن اقتحام المسجد الأقصى، والتوقف عن ترحيل الفلسطينيين من بيوتهم في حي الشيخ جراح؟
وهنا لا بد من التأكيد أن مطالب المقاومة الفلسطينية شرعية ومنطقية وسياسية، ولا يستطيع أحد أن يقول لرجال المقاومة: لا، احشروا طلباتكم داخل غزة، ولا شأن لكم بالقدس، حتى أن الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع العدو الإسرائيلي، وتلك الدول التي طبعت علاقاتها مع العدو، لا تجرؤ على الاعتراض على مطالب المقاومة، ولا يمكنها الضغط على رجال غزة، لتحقيق تهدئة مقابل تهدئة، بل ستجد هذه الدول نفسها تصطف إلى جانب المقاومة، وتطالب العدو الإسرائيلي بوقف العدوان على المسجد الأقصى.
لقد نجحت المقاومة في الربط الوثيق بين المقدسات الإسلامية والتهدئة، ونجحت وهي تقاتل تحت هذا الشعار في تحصين نفسها من النقد المألوف، ونجحت في تحريك الضفة الغربية، وإشعال النار داخل فلسطين المغتصبة سنة 48، إضافة إلى تحريك الشارع العربي، والمجتمع الدولي ضد العدوان الإسرائيلي، وهذا إنجاز ما كان ليتحقق للقضية الفلسطينية دون ذلك الربط الوثيق بين صواريخ غزة والمسجد الأقصى، ولهذا جاء الربط بين التهدئة وعدم الاعتداء على القدس خطوة سياسية مدروسة وذكية، وتستوجب التضحية، وتعطي للميدان الفرصة لكي تتوازن القوى على أقل تقدير، أو ترجح لصالح المقاومة التي أصبحت مدعومة من كل الشعب الفلسطيني من النهر إلى البحر، وأضحت تستند إلى مزاج عربي وإسلامي لا يمكنه إلا أن يكون داعماً للمقاومة مادياً وسياسياً.
ضمن هذا المشهد الذي فرضت فيه المقاومة نفسها نداً في الميدان، ورأس حربه يلوح بها كل الشعب الفلسطيني، تتحرك أكثر من دولة لتحقيق التهدئة، ولا يأتي هذا الحراك دون طلب رسمي من العدو الإسرائيلي، فهو الذي يرسل الوسطاء، وهو الذي يفتش عن تهدئة من خلال كل الأطراف التي لها تأثير في الساحة الإقليمية، وعلى رأس هؤلاء الوسطاء كان المبعوث الأمريكي للمنطقة، والمبعوث الدولي، اللذان يفتشان عن التهدئة بعد أن تأكد لهما استحالة تحقيق أي نصر للجيش الإسرائيلي، وبعد أن استجارت بهما إسرائيل للبحث عن مخرج، يحفظ مياه وجه الجيش الإسرائيلي الذي فقد هيبته تحت أقدام غزة.
المقاومة الفلسطينية ما زالت تصر على موقفها، وما زالت تمتلك الكثير من الأوراق المغطاة، والقادرة على قلب المعادلة بشكل أسوأ مما حدث للعدو حتى اللحظة، لذلك جاء استعداد بعض الدول لتقديم المساعدات المالية العاجلة لغزة ضمن الجهد المبذول لتحقيق التهدئة، فقد استعدت ألمانيا لتقديم 40 مليون دولار مساعدات عاجلة، واستعد الرئيس المصري لتقديم 500 مليون دولار لإعمار غزة، وهناك الدول الخليجية والأوروبية الجاهزة لتقديم الملايين لمساعدة سكان غزة، وما دون ذلك، فإن العدو يهدد غزة بقطع الكهرباء، وعدم السماح بإدخال المساعدات الإنسانية، والمزيد من الحصار، لتقف غزة بين خيارين، القبول بالتهدئة والمساعدات المالية، أو مواصلة المواجهة والتعرض للمزيد من التجويع والضغط الحياتي على الحاضنة الشعبية.
فهل ستوافق المقاومة على كل هذه الإغراءات المادية الإنسانية، وتتساوق مع التهدئة، أم تصر على أن تحقق المكسب السياسي، القائم على الربط بين غزة والقدس، وتضرب بعرض الحائط كل الإغراءات المالية.
لن أنتظر الأيام القادمة لتحكم على المواقف، سأجزم من خلال مقالي هذا بأن رجال المقاومة في غزة، الذين حاربوا الحصار مثلما حاربوا الإجراءات العقابية، ومثلما حاربوا الفقر والتجويع وإغلاق المعابر، وأبدعوا في فن المقاومة، وقصف تل أبيب، هؤلاء الرجال لن يطفئوا نار الضفة الغربية التي أشعلتها المقاومة، ولن ينزعوا سهماً غرسوه في صدر الاحتلال الإسرائيلي مقابل حفنة من الوعود بملايين الدولارات.