لقد بدأت المعركة مقدسية بامتياز، احتجاجًا على قرار سلطات الاحتلال تهجير 28 عائلة فلسطينية من حي الشيخ جراح بالقدس واستبدال عائلات يهودية بهم، بالتزامن مع رفض شباب القدس قرار بلدية الاحتلال منعهم من حقهم باستخدام مدرجات باب العمود والسماح لليهود بالتسكع في المكان!
لقد أثبت شعبنا الفلسطيني في القدس على طول سنوات الاحتلال البريطاني والإسرائيلي، أنه قادر على إشعال الثورة من جديد رغم كل المحاولات لتخذيله داخليًّا عبر الضرائب الباهظة ونشر المخدرات ومنع تصاريح البناء وسحب الهويات والإبعاد خارج حدود المدينة، ورغم الضغوطات الكبيرة التي تمارس عليه من القريب والبعيد، عبر التطبيع مع العدو ومنع أي نوع من أنواع الدعم لصموده سواء كان معنويًا أو ماديًا.
لم تكن استغاثة أهل القدس بغزة ومقاومتها العسكرية إلّا دليلًا على ثقتهم بأنها الوحيدة القادرة على ردع العدو وكبح جماحه. وغزة التي لم تتأخر أبدًا عن تلبية النداء فتقدمت بدعمها المعنوي أولًا، عبر رسائل واضحة من أعلى سلم القيادة في المقاومة العسكرية القائد "محمد الضيف"، وأعلى سلم القيادة السياسية السيد "إسماعيل هنية"، تلك الرسائل التي عبرت عن الالتزام الكامل بالنصرة مهما كلف الثمن.
ومع التحذير الأخير مساء الاثنين 10 مايو 2021، في تمام الساعة السادسة، حيث انتهت المهلة التي منحتها غرفة العمليات المشتركة على لسان الناطق باسم كتائب القسام، انطلقت صواريخ المقاومة من غزة إلى القدس أولًا ثم امتدت إلى المدن والمستوطنات الأخرى. ليعلن العدو صاغرًا عن وقف أنشطة احتفالاته بما يسميه يوم "توحيد القدس"، وفك الحصار عن المصلين في المسجد الأقصى، وكان قد أوقف قرار تهجير عائلات الشيخ جراح.
لقد جاء اليوم الذي انتظرته المقاومة الفلسطينية طويلًا، حيث تتحرك كل الجبهات ضد العدو في الوقت نفسه، كل بحسب طاقته وإمكانياته وأسلوبه الميداني. فالمعركة ضد العدو مشتعلة منذ تلك الليلة بالتزامن؛ في القدس ومدن الضفة الغربية وقطاع غزة ومدن وبلدات الداخل المحتل عام 1948م. بل إن الدم الفلسطيني الذي سقط من شهداء غزة وشهيد مدينة اللد جسّد وحدة فلسطينية في مواجهة عدو إسرائيلي واحد.
والمتابع للشأن الإسرائيلي يدرك أن العدو لم يكن يستبعد أن تتحرك كل هذه الجبهات وغيرها يومًا ما، فهو يستشرف أنه أمام حالة شعبية فريدة، لا يمكنها أن تخنع لإرادته أو تتنازل عن حقوقها، حتى لو كلف ذلك شهداء وجرحى وخسائر في الممتلكات، وقد جرب العدو ذلك مرارًا وتكرارًا. كما أنه يدرك أنه كيان هجين غير شرعي مهما حاول أن يقنع ضعاف النفوس بغير ذلك، وأن البيئة العربية لا يمكنها أن تقبله. ولذا فإن أكبر مناورة عسكرية في تاريخه، التي انطلقت الأحد 9 مايو 2021 وتستمر لمدة شهر كامل وتحمل اسم "شهر الحرب"، صُمِّمت على احتمالية تعرض "إسرائيل" لهجوم عسكري شامل على عدة جبهات في الشمال والجنوب وتشارك فيها كل القوات الجوية والبرية والبحرية.
ولعل رفع حالة الاستنفار لدى فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وحزب الله في لبنان، يأتي في سياق خشيتهم من احتمالية سلوك عدواني ماكر من الاحتلال ضد أي منهم.
لقد نجحت المقاومة الفلسطينية في استراتيجية "تعدد جبهات المواجهة" مع العدو الإسرائيلي، واستطاعت أن تجمع على العدو أكبر عدد من نقاط التهديد التي تمس الجبهة الداخلية، سواء في القدس و"تل أبيب" أو في عمق الداخل المحتل شمالًا وجنوبًا، ومن قطاع غزة، بالإضافة إلى مدن الضفة الغربية التي لا تزال تقدم أقل من المتوقع.
وردًا على إطلاق العدو الإسرائيلي عملية "حامي الأسوار"، فإن المقاومة الفلسطينية أطلقت اسم "سيف القدس" على عمليتها العسكرية لصد العدوان، التي تغطي مساحة الوطن. وهنا تظهر الأهمية الاستراتيجية لتقديم المقاومة العسكرية مهام عملها لتحقيق أهداف سياسية وميدانية خارج قطاع غزة، لتمتد إلى العاصمة القدس ومن ثم تعظيم قوة ردعها ومضاعفة تأثيرها الأمني والسياسي، خاصة وهي تعمد إلى توسيع الولاية الجغرافية لقواعد الاشتباك لتتجاوز حدود غزة الأمنية لتشمل كل المدن الفلسطينية.
هذه المعركة "سيف القدس" ليست كغيرها من حيث الأهداف والأسلوب والأدوات، والعدو أكثر من غيره يدرك أنه في وضع سياسي وحكومي لا يمنحه أفضلية، بقدر ما يجعله أكثر ضعفًا، خاصة وأن جبهة الداخل المحتل هي خاصرته الضعيفة، والقدس تحت ولاية الشرطة وليس الجيش، كما أن اشتعال الضفة سيعني بالضرورة سقوط حليفه الأمني هناك.