مع انتهاء دورة قيادية داخل حركة حماس مدتها أربع سنوات، وقبل بدء أخرى، تبدأ جولة داخلية واسعة من النقاشات بشأن الإنجازات والإخفاقات والرؤى للمرحلة المقبلة.
الرؤية هي شرط القيادة الناجحة، وهي، بحسب علوم الإدارة، جواب القائد عن سؤال: أين ترى مؤسستك بعد أربع أو خمس سنوات من الآن؟
كل مسؤول في كل تنظيم فلسطيني يُفترض أن يتهيأ لتلقي هذا السؤال، وهو ملزم الإجابة عنه، من خلال القدرة على تحديد الأهداف التي يريد الوصول إليها، كي لا يُفاجأ لاحقًا بسؤال: ماذا حققت؟
تتصف حماس بأنها حركة مؤسساتية شورية، تلتزم وتُلزم نفسها مبادئ قيادية تبدأ بسؤال وتنتهي بآخر، من أمثلة الأسئلة أعلاه.
وخلال دورة مفتوحة من الأسئلة والمراجعات، تبرز الاختراقات التي تكون الحركة معنية بتثبيتها والبناء عليها، ومنها ما يمكن ملاحظته قياسًا بما سبق، وهو ما أنا بصدد الإشارة إلى بعضه مما استقر عليه وضع الحركة في الآونة الأخيرة من خلال جهد مؤسسي منظم.
لا يوجد ما تغيّر على الوضع التنظيمي أو السياسي للحركة داخل قطاع غزة، باستثناء أنها أصبحت أكثر ندّية للاحتلال واشتباكًا معه، وأكثر التحامًا بقضايا شعبنا وهمومه.
في حين سعت في الأقاليم الأخرى، وتحديدًا في الضفة والخارج، إلى أداء وتنفيذ الأدوار التي تعزز المكانة السياسية للحركة، من خلال المراكمة على الجهود الكبيرة السابقة، والعلوّ بالتمثيل الحركي.
وهو ما برز خلال الدورة السابقة على نحو ملحوظ، بعد التوازن الذي أحدثه استقرار رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية في الخارج، والذي يجيب بها، من مكتبه في الدوحة، عن سؤال طُرح عليه غالبًا: أين ترى حماس بعد 4 سنوات؟
يُحسب لهذه المؤسسة أنها قدمت صورة خارجية تليق بالحركة، وقادت تمثيلًا نتج عنه متغيرات أو انعكاسات داخلية لمصالح تنظيمية أو عامة وإما دفعًا لأضرار محتملة.
استطاعت أن تخترق أبوابًا كانت مغلقة في وجه الحركة، لأسباب لم تكن في بعضها مبنية على المواقف الرسمية لها وأخرى ناتجة عنها، مثل الموقف من الملف السوري، فاستعادت علاقاتها بحلفاء سابقين، وحافظت وطورت على علاقاتها بالحاليين منهم، برغم الصراعات البينية والحسابات الضيقة والدقيقة جدًا.
سمح ذلك بتشكيل أرضية خارجية للحركة وفّرت لها المرونة التي استطاعت من خلالها إدارة حوارات الوحدة الوطنية في الخارج وحتى داخل السفارات الفلسطينية، وانعقاد المؤسسات والأطر التنظيمية والوطنية، مثل مؤتمر الأمناء العامين وغيره.
كما أن التحرّك الخارجي وجولتها الأخيرة على عواصم عربية، أحاطت الحركة بهالة من التقدير الشعبي العربي، بدت باعتزاز في التحيّة العسكرية من رجل الأمن العماني لهنية على بوابة قصر السلطان، وفي الاستقبال التاريخي له وحمله على الأكتاف في مخيم عين الحلوة بلبنان، قادمًا من تركيا.
وهي الزيارة التي أيقظت المخاوف من ثقل الحركة ووجودها في مخيمات اللاجئين بالخارج، بعدِّها الأولى لمسؤول فلسطيني رفيع، وهي التي لم يفوّت هنية خلالها أن يبعث برسالة موجزة لقيادة الاحتلال من الحدود الشمالية لفلسطين، تنزِع أمنه، حين قال إن "المخيمات قلاع المقاومة".
وقد بدت أهمية هذه الجولة، التي راكمتها "دبلوماسية الاتصال"، في مواقف الخصوم السياسيين للحركة، الذين اشتركوا في مهاجمتها ودعوة الدول إلى مقاطعتها، والادعاء بأنها لا تمثل شعبنا، وبذلك نجحت الحركة في أن تفضح تقصيرهم بمساعدتهم.
إن القيمة الكبيرة للنهوض بالحركة على المستوى الخارجي، في أنها تزامنت مع تحدّيات خطِرة تهدد القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها صفقة القرن، والهرولة إلى التطبيع، إضافة إلى ملء الفراغ الناتج عن الغياب التام للدبلوماسية الرسمية، حتى فرضت نفسها كبديل واثق.
وهو ما شجّع أطرافًا ومفاعيل دولية أخرى على التواصل مع الحركة وتدشين علاقات معها أو تمكين علاقات قائمة، حتى نشطت حركة الوفود والسفراء إليها، وباتت تُطرح عليها الضمانات الدولية لتغطية مخاطر عدم وفاء الطرف الآخر.
إن محصلة فاعلية هذا التمثيل الخارجي والنشاط السياسي يمكن رؤيتها في العُزلة التي يعيشها اليوم المكلفون رسميًا بهذه الأدوار الأساسية بكل أرشيفهم السياسي والأمني واتفاقاتهم الانهزامية، وهو هدف استراتيجي تحققه الحركة بطريقة غير مباشرة.
أربع سنوات أخرى قد يواصل فيها هنية قيادة الحركة في الداخل والخارج إلى جانب إخوانه، ستفرض على الجميع وقائع سياسية قد ينتج عنها، ضمن متغيرات جديدة، مراجعات أو اعتذارات على شاكلة ما قاله توني بلير بـ "أنه وغيره من زعماء العالم أخطؤوا في مقاطعة حماس وحصارها بعد فوزها"، أو قد نرى الحركة على طاولة الحوار مع المجتمع الدولي، المهم أن السؤال نفسه قد يُطرح على هنية مرة أخرى اليوم: ماذا ترى حماس بعد 4 سنوات؟ ويجيب عنه لاحقًا من مكتبه في القدس.