فلسطين أون لاين

الحلقة الثانية/ عملٌ مغمسٌ برائحة "الموت" والابتزاز

تحقيق "تجارة التصاريح" واقتطاعات الرواتب.. وحوش وسماسرة ينهشون أجور العمال الفلسطينيين في (إسرائيل)

...
العمال الفلسطينيين في طريقهم للعمل في الداخل المحتل (أرشيف)
تحقيق/ يحيى اليعقوبي:


العاملة تركمان: المشغل كان يحسب ساعة العمل بـ 10 شواقل ويسجلها بقسيمة الراتب 27 شيقلًا

عيسى ميتاني: أصبحت كرامتنا مقابل التصريح ونُبتَز بالأجرة اليومية

العامل أبو بكر: تعرَّضتُ لإصابة خطِرة وصاحب العمل ألقاني عند الحاجز

مصعب عمر: اشتريتُ تصريحًا من سمسار بـ 2500 شيقل وتحولت حياتي إلى جحيم

مسؤولة بوزارة العمل: من يُحرِّك سماسرة التصاريح ضباط إسرائيليون وكبار المشغلين

مؤسسة "عون العامل": تجارة التصاريح تبلغ مليارًا و300 مليون شيقل سنويًّا

قرابة 50 ألف عامل يشترون التصاريح من السماسرة ولا دور فلسطيني حقيقي لملاحقتهم

 

الساعة الحادية عشرة صباحًا، عطلٌ مفاجئ في جنزير كسارة طحن الحجارة يقذف ما بأحشائه في وجه العامل الفلسطيني أحمد أبو بكر (23 عامًا) الذي كان يزودها بـ"الخومر"، في موقع العمل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 مثل بركان أفرغ حممه، وأسقطه من علو على أسياخ وحجارة، سرعان ما هرع صاحب العمل وحمله بسيارته والدماء تنزف من وجهه، ولكن ليس إلى المستشفى وإنما عند حاجز عسكري قرب مدينة جنين وهناك تركه ونُقل إلى مستشفى "الرازي" لتلقي العلاج بواسطة إسعاف فلسطيني.

"بقيتُ في المشفى بين الحياة والموت، مكثت ستين يومًا لا أستطيع الأكل، من شهر أغسطس أجلس في بيتي بلا عمل بعد الحادثة، لم أتلقَّ أي تعويض، وتدمرت حياتي" .. كلمات وجع ترافقها تنهيدات خرجت من حنجرة أحمد، وفي صوته مسافة من القهر: "رموني بعد ما اشتغلت عندهم سنتين ونصف السنة".

تكشف صحيفة "فلسطين" في هذا التحقيق تعرُّض العمال الفلسطينيين الذين يعملون في الداخل المحتل لانتهاكات مركبة متعلقة بإصابات العمل وحوادث الوفاة، وتكشف عن تجارة التصاريح التي يتم من خلالها نهب نصف راتب العامل، في ظل عدم وجود جسم نقابي يدافع عن حقوقهم، وكذلك عمليات تزوير لقسائم رواتب العمال وأكل حقوقهم.

العامل أحمد أبو بكر، ما هو إلا واحد من مئات العمال الذين يتعرضون لإصابات عمل دون أي تعويض من مشغليهم في (إسرائيل)، يظهر تقرير طبي صادر عن مستشفى "الرازي" أطلعنا عليه تعرُّضه لحادث عمل في "باقة الغربية" داخل فلسطين المحتلة في 31 آب/أغسطس 2020، نتج عنه أربعة كسور في الفك السفلي، وأُدخل غرفة العمليات.

هنا، كان اليوم الذي سيحصل فيه الشاب مصعب عمر (36 عامًا) على تصريح عمل في الداخل المحتل، حلمٌ يراوده وحياة وردية رسمها لأسرته، فلم يستطع استصدار تصريح من شركة إسرائيلية مباشرة، واضطر كما غيره الآلاف أن يشتري تصريحًا شهريًّا من أحد السماسرة، لكن المبلغ الذي طلبه السمسار من جنين ويدعي "مثنى زايد" إزاء إصدار التصريح يبلغ 2500 شيقل شهريًّا وهو مبلغ شهري ثابت لدى جميع السماسرة.

حياة جحيمية

عبر سماعة الخط الهاتفي، يعض مصعب أصابع الندم على شراء التصريح، فقد تحوَّلت الحياة الوردية التي رسمها لنفسه إلى جحيم لا يزال يلاحقه منذ عام 2019 حتى اليوم، فيروي قصته: "اشتريت التصريح، وحينما بدأت العمل في مجال الدهان كنت أحصل شهريًّا على مبلغ 4500 شيقل.

مصعب الذي كان يدفع نصف راتبه فقط للتصريح وقع ضحية تجار سماسرة التصريحات بالضفة الغربية في حلقة طويلة تبدأ من السمسار الفلسطيني ثم ضباط الإدارة المدنية في جيش الاحتلال الذين يتقاسمون هذه السرقة.

وأوضح أنه أضطر لشراء التصريح؛ "لأن هناك مناطق في الداخل المحتل يمنع تواجدنا فيها دون تصريح، لكني لم أستطع أن أكمل بهذا النظام لأكثر من خمسة أشهر فقررت ألَّا أكمل الشهر الخاص وجلست في البيت".

المثير أن السمسار لم يترك مصعب وشأنه، بل طالبه بدفع مبلغ الأيام المتبقية على التصريح، وقدَّم شكوى عليه بالمحكمة، وفق إفادته، فوصله بلاغ اعتقال من الشرطة، يدخل في تفاصيل ذلك أكثر: "ذهبت إلى مكتب العمل بوزارة العمل بجنين وقدمت شكوى ضد السمسار، إلا أنني تفاجأت بعد مدة يريدون خفض المبلغ إلى 1200 شيقل، لكني رفضت لأني لا أريد دفع المبلغ، شعرت أنهم يقفون مع السمسار وليس مع العامل، والآن يهددني بأمر حبس جديد وسأرى إن كانوا سيحمون العامل أم سيقفون مع ذلك السمسار".

ما أورده مصعب، يختلف عما تحدثت به أسماء حنون المدير العام للتشغيل الخارجي بوزارة العمل عن دور الوزارة في ملاحقة تجار وسماسرة التصاريح، بأنه بمجرد ما يشتكي العامل فإن الوزارة تحوِّل الشكوى للجهات المختصة وتحوِّلها للنيابة العامة.

ولا يوجد قانون يجرم تجارة التصاريح ويفرض عقوبات وغرامات مالية على الأشخاص الذين يتعاملون بها، مما يجعل العامل الفلسطيني فريسة لهذا النوع من الاستغلال.

تكشف حنون لمُعِد التحقيق أن من يحرِّك هؤلاء السماسرة ويديرهم ويجندهم هم ضباط الإدارة المدنية الإسرائيلية وكبار أصحاب العمل الإسرائيليين الذين يهدفون لاستقطاب العمال وتجريدهم من رواتبهم، وهذا مثبت في تقرير مراقب الدولة الإسرائيلي لعام 2020.

بحسب ممثل جمعية "عون العامل" الإسرائيلية بالضفة الغربية عرفات عمر، فإن هناك قرابة 50 ألف عامل يشترون التصاريح بالضفة الغربية من مكاتب سماسرة، يدفع كل عامل سنويًّا 30 ألف شيقل، بواقع 2500 شيقل شهريًّا، أي نصف الراتب، وقال لمُعد التحقيق: "بحسب دراسات أجريناها فإن قيمة تجارة التصاريح تبلغ مليارًا و300 مليون شيقل سنويًّا ومعظم هذه الأموال تذهب للشركات الإسرائيلية".

انتهاكات مركبة

لكن ليست تجارة التصاريح هي الانتهاك الوحيد الذي يعانيه العمال، فهناك قائمة طويلة من الانتهاكات، أولها إذلالهم عند المعابر ذهابًا وعودة رغم وجود تصاريح عمل فيضطر العمال إلى الاصطفاف في طابور طويل، وإمضاء ساعات طويلة في التفتيش اليومي، وعدم توفير أدنى شروط للصحة والسلامة المهنية، مما نتج عنه مئات الإصابات وحالات الوفاة، إضافة إلى حرمانهم من حقوقهم.

تركت كلثوم تركمان (37 عامًا) عملها في تليين زجاجات العطور في الداخل الفلسطيني المحتل، بعدما تعرضت لإصابة عمل قبل خمس سنوات.

تزيح الستار عن معاناتها لنا: "عملت لمدة ثلاث سنوات، كنت أصبر على ذل طابور الانتظار على الحاجز فنستيقظ باكرًا حتى نصل إلى الحاجز الساعة السادسة صباحًا، ونتعرض لتفتيش دقيق، لكن صاحب العمل كان يحسب ساعة العمل بعشرة شواقل رغم أنه يسجلها في قسيمة الراتب 27 شيقلًا، وكنت أحصل على راتب شهري يبلغ 1500-2000 شيقل فقط، رغم صعوبة العمل في تليين زجاجات العطور وتشكيلها".

تتحسر على حالها بصوت مسكون بالألم بلهجة عامية "رفض المشغل الاعتراف بإصاباتي وتهرَّب منها، بعد ما عملت عملية تحرير وتر وعصب، وهيني ما بقدر أرفع إيدي حتى أنه رفض اعتبار الفترة اللي تغيبت فيها إجازة إصابة عمل".

تأخذها الذاكرة إلى بعض أشكال المعاناة: "تخيل في أيام الإغلاقات، كنا نذهب ونخاطر بحياتنا بين الأشجار والحقول لأجل أن نصل إلى أعمالنا ونعيل أُسَرَنا".

عيسى ميتاني (52 عامًا) هو أحد العمال الذين يتجول بهم المشغل بين مناطق مختلفة تفصلها مسافات شاسعة داخل حدود فلسطين التاريخية للعمل في الزراعة، فتارة يعمل في هضبة الجولان قرب الحدود مع سوريا، أو في الحقول المحاذية لقطاع غزة، وبين تلك المسافات مسيرة طويلة في السيارة يصل إلى أرض العمل منهكًا.

لكن ليس هنا الانتهاك فقط، يحرر عيسى التفاصيل الجاثمة على قلبه بتنهيدة سبقت صوته: "أصبحت كرامتك مقابل التصريح، فيبتزنا بالأجرة اليومية، فراتبي اليومي لا يزيد على 150 شيقلًا، رغم أني أعمل تحت لهيب الشمس الحارقة، والمفترض أن أحصل على 240 شيقلًا ومنذ أن عملت معه قبل عدة شهور لم يعطِني قسيمة راتب".

منذ 25 عامًا يعمل عيسى في الداخل الفلسطيني المحتل، وأكثر ما يؤرقه عدم "الطمأنينة" والاستقرار، وهضم الحقوق، والنصب والاحتيال ومصادرة حقوقه من إجازات مرضية وسنوية، ورغم أنه يتم خصم رسوم تأمين صحي منه، لكن الاحتلال يرفض علاجه بمستشفياته، فيدفع رسوم تأمين صحي تبلغ 60 شيقلًا شهريًّا لدى وزارة الصحة الفلسطينية برام الله.

ووفق المعطيات التي حصلنا عليها، فإن هناك قرابة ربع مليون عامل فلسطيني من الضفة الغربية يعملون في الداخل الفلسطيني منهم 120 ألفًا يعملون بتصريح عمل، و30 ألف يعملون بتصاريح بالمستوطنات، ونحو 100 ألف عامل يعملون بتصاريح مختلفة أو من خلال فتحات التهريب تعرض آلاف منهم للإصابات عند تلك الفتحات.

تظهر البيانات لمنحنى ضحايا حوادث العمل بفرع البناء منذ بداية سنة 2000 حتى 28 أبريل/نيسان 2021 أن معدل حالات الوفاة السنوية يبلغ قرابة 33-35 عاملًا، لكن تخطى عدد الضحايا حاجز الأربعين في عام 2019 بعد وفاة 47 عاملًا بحوادث العمل، ونفس العدد عام 2016، في حين سجَّل عام 2018 41 حالة وفاة، ومنذ بداية 2021 حتى نشر هذا التحقيق فقد توفي 8 عمال، وغالبًا لا تحصل عائلاتهم على تعويضات.

بحسب اتفاقية مجموعة العمل في فرع البناء، فإن هناك ثماني درجات عمل في (إسرائيل) يتم التعامل مع العامل الفلسطيني بحسب الدرجة الدنيا الأولى براتب 5600 شيقل، أما العامل الإسرائيلي فيتم التعامل معه بالدرجة الثامنة براتب 7500 شيقل، أما الفروع الأخرى غير البناء فأجرة العامل فيها متدنية ولا تختلف كثيرًا عن واقع العمل بالسوق الفلسطيني.

عملية تزوير

تظهر وثائق لقسائم رواتب عمال حصلنا عليها، وجود عمليات تزوير لحقوق العمال، إذ يزوِّر صاحب العمل البيانات التي يقدِّمها لدائرة المدفوعات الإسرائيلية المتعلقة بقسائم رواتب العمال، والتي تتضمن بالخانة الأولى على الجهة اليمنى ما يدفعه صاحب العمل للدائرة، وفي الوسط ما يحصل عليه العامل من راتب، والخصومات من ضريبة دخل، وتأمين صحي، ورسوم تنظيم نقابي تبلغ 1% وهذه يتم تقاسمها بين "الهستدروت" الإسرائيلي واتحاد نقابات عمال فلسطين.

ويزوِّر أرباب العمل الأرقام والمعطيات في الوثائق، فيدخلون بيانات تفيد أن العامل حصل على كل حقوقه من إجازات سنوية ومرضية رغم أن هذه القسائم تصدر عن جهة رسمية إسرائيلية، بالتالي تُسرق أموال العمال لأن الأرقام غير مطابقة لما يتم على أرض الواقع، وحينما يريد العامل الذهاب للمحكة للمطالبة بتلك الحقوق يتفاجأ بأنها موجودة في قسيمة الراتب.

يقول عرفات عمرو منسق جمعية "عون العامل" بالضفة الغربية: "إن دائرة المدفوعات تجبي من العامل الفلسطيني قرابة 20% من راتبه، والأصل أن تكون معاشًا تقاعديًّا لكن لا يتم ذلك، وخلال فترة أزمة جائحة كورونا تعطل العمال عُوِّض العامل الإسرائيلي ولم يُعوَّض العامل الفلسطيني، ورغم الحجم الكبير لحوادث العمل التي راح ضحيتها العمال الفلسطينيون لم نرَ إغلاق منشأة عمل واحدة ونادرًا ما تجد عاملًا يحصل على حقوقه المتعلقة بالإجازات ".

ويعدُّ أن مرض كورونا كشف عورة المشغلين الإسرائيليين تجاه العمال الفلسطينيين وتعاملهم غير الأخلاقي، فحينما يصاب العامل كان يلقى على المعابر، أو ينامون شهرًا داخل (إسرائيل) في الحقول وورشات البناء، وهذا انتهاك كبير.

تقاسم الحصة

يسجل عمر ملاحظات على الاتفاقية المبرمة بين "الهستدروت" (اتحاد عمال الاحتلال) والاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، إذ يجبي "الهستدروت" 1% من قيمة راتب العامل، بواقع 40 مليون شيقل بالسنة ويتقاسمها مع اتحاد العمال منذ عام 1996م، متسائلا: "بأي حق يأخذ الهستدروت ذلك".

ما يثير استغراب عمر وجود كل هذا الكم الهائل من العمال الفلسطينيين الذين يشكلون 30% من القوى العاملة بدولة الاحتلال، إلا أنهم يتعرضون لانتهاكات "مرعبة" وتصادر حقوقهم، ولا يوجد جهات فلسطينية نقابية تقف عند مسؤولياتها.

جميل أبو راس نقابي ورئيس لواء المثلث الجنوبي، يقول: "الجميع يعلم مدى صعوبة العمل الشاق والتغيب عن العائلة لفترة طويلة والاستغلال البشع الذي يتعرض له العمال الفلسطينيون من سماسرة التصاريح ومن معظم أرباب العمل، الذين همهم الوحيد زيادة أرباحهم حتى لو جاءت على حساب حياة العاملين، حيث نشهد ارتفاعًا لحوادث العمل القاتلة، خلال كل سنة يذهب ضحية لقمة العيش ما بين 30-40 عاملًا، ناهيك بالجرحى الذين أُصيبوا بإعاقات دائمة".