عاشت (إسرائيل) وكبرت على الوهم بأنها قوة عظمى لا تقهر، وقد حرصت من خلال سلوك قادتها العسكريين على أن تبدو لأعدائها بأنها لا تقهر، وأن مخابراتها تعرف كل شيء، وأن أذرعها العسكرية طويلة، وعيونها خارقة، وعضلاتها فتاكة، تمتلك المال والإرادة والعقل والتدبر والقوة والنفوذ، وجيشها على كل شيء قدير.
صناعة الوهم الذي أنتجته العقلية الإسرائيلية بمهارة، مكَّنها من السيطرة على المنطقة، وبسط نفوذها على الأرض العربية، وقبل ذلك مكَّنها من اغتصاب فلسطين بلا معارك جدية، وظلت صناعة الوهم هي السلاح السري الذي مكَّن (إسرائيل) من الانتصار على سبعة جيوش عربية، بل مكَّنها من فرض شروطها في كل المفاوضات التي جرت مع الدول العربية، والوهم نفسه صنع من (إسرائيل) أسطورة القدرة والغلبة.
ولم تكتفِ (إسرائيل) بنشر الوهم عن تفوُّقها العسكري على الدول العربية، بل عمدت إلى إظهار تفوُّقها الاستخباري والعلمي والتكنولوجي والديمقراطي والزراعي، وباتت (إسرائيل) محط أنظار الأنظمة العربية، وحلم كل باحث عن السيادة والسيطرة في بلاده، وأمنية لكل حاكم يتشبث بالكرسي، حتى سعت بعض الدول العربية لعقد الاتفاقيات السرية، وصار رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي موزِّع الشرعيات والاستقرار في المنطقة، وصار الموساد الإسرائيلي قادرًا على عزل وزير، وتوظيف رئيس وزراء، في أكبر الخدع والكذب عن القدرة الإسرائيلية.
ولما كانت القوة غرورة، والنجاحات مغرية بتحقيق المزيد، فقد تقدم الموساد الإسرائيلي خطوة في المنطقة، واتجه إلى إيران، ونجح في الحصول على معلومات خاصة عن المفاعل النووي من الإيراني، ونجح قبل أيام في إحداث تخريب إلكتروني في إحدى المفاعلات النووية "نطنز"، وانطلقت آلة الدعاية الصهيونية في بث القدرة الإسرائيلية، والعظمة في اختراق كل الحواجز، والوصول إلى الممنوعات، وصنع المعجزات، وتحقيق الانتصارات، حتى صدَّق بعض العرب أن الحليف الوحيد القادر على حماية الأنظمة العربية هو الموساد الإسرائيلي.
وجاءت المفاجأة من إيران، حين فضحت الأكذوبة الإسرائيلية، واكتشفت الجاسوس الذي خرَّب في المفاعل النووي "نطنز"، وتبيَّن أنه موظف في المفاعل، وهو مجرد شخص اشترته المخابرات الإسرائيلية، ووظفته لمهمة محدودة، قام بها صاغرًا، قبل أن يفر من وطنه، موظف صغير نجح في التخريب الداخلي، جاسوس خدم مشغليه، وخرَّب بعض ممتلكات بلاده، ليوظف الإعلام الإسرائيلي الحدث وكأنه الانتصار التاريخي، والقدرة العملاقة.
جاسوس إسرائيلي هنا، وجاسوس آخر هناك، ساعدوا في بث الدعاية عن القدرة الإسرائيلية الطاغية، مجرد جاسوس مهمته التخريب، أسهم في صناعة الوهم الذي سوقته (إسرائيل) على سكان الأرض، وغزت به المنطقة العربية، ويكفى الإشارة هنا إلى الجاسوسة المصرية هبة سليم، التي أسهمت مع خطيبها في تفجير منصات الصواريخ المضادة للطائرات في مصر، لتبدو (إسرائيل) بقوة قاهرة، حتى كشفت المخابرات المصرية اللغز، فإذا بالدولة الخارقة مخترقة من داخلها، وإذا بها بعد سنوات مرتبكة أمام صواريخ غزة، وأمام صاروخ منفلت من سوريا، وصل إلى النقب، لتظهر (إسرائيل) كدولة لا تنتصر إلا بالوهم، الذي باعته إلى قادة المنطقة.
بعد هزيمة 67 بأيام معدودة، أمر الحاكم العسكري في قطاع غزة برسم خريطة (إسرائيل الكبرى) على واجهة بعض المدارس الثانوية في قطاع غزة، وكانت خريطة (إسرائيل الكبرى) تضم كل سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، (إسرائيل الكبرى) وهمٌ، تعمدت القيادة العسكرية طبعه في عقلية الأجيال.