" لا صلح لا اعتراف لا تفاوض" تلك هي اللاءات الثلاث التي عُرف بها مؤتمر الخرطوم الذي انعقد في عام 1967م على خلفية الهزيمة التي ألحقتها (إسرائيل) بالعرب، فعقد العرب قمة لتأكيد ثوابتهم تجاه الكيان الصهيوني من خلال هذه اللاءات لتعرف الخرطوم بعدها بعاصمة اللاءات الثلاث، لكونها حظيت بشرف استضافة مؤتمر العرب الذي أقر هذه الثوابت، وبقيت الخرطوم على عهدها بهذه الثوابت رغم تغير وتبدل أنظمة الحكم عليها باختلاف التوجهات الفكرية والأيديولوجية لهذه الأنظمة، حتى نقضت الخرطوم عهدها مع هذه اللاءات يوم الاثنين الماضي حينما صدَّق مجلسا السيادة والوزراء السودانيين على قانون إلغاء مقاطعة (إسرائيل).
تصديق مجلسي السيادة والوزراء السودانيين على هذا القانون هدم حاجز صد عظيم للامتداد الصهيوني في العمق العربي ظل متماسكًا أربعة وخمسين عامًا، وذلك خلال ثلاث سنوات فقط من عمر المجلس السيادي الانتقالي السوداني الذي أعقب نظام البشير.
قد يكون لنظام البشير الكثير من المساوئ في الحكم ولكن يشهد له أنه كان داعمًا مخلصًا للقضية الفلسطينية ومعاديًا للصهيونية، الأمر الذي منعه التمتعَ بالحماية الغربية وما توفِّره من دعم مادي أو اقتصادي للسودان، فآثر التمسك بالثوابت العربية ومحافظًا على عهد الخرطوم، رغم كل المؤامرات التي حيكت ضد السودان من جانب العدو الصهيوني والإدارة الأمريكية وأطراف عربية أصبحت عراب التطبيع مع (إسرائيل) ومحرك الفتن في الوطن العربي.
سودان اللاءات الثلاث تعرَّض للقصف الأمريكي والصهيوني مرات عديدة لثنيه عن دعم المقاومة الفلسطينية، ولكنه أبى التنازل عن لاءاته التي تمثل إرثه النضالي الوطني المعاصر المعبِّر عن أصالة الفكر العربي الثوري المضاد تمامًا للفكر "الثوري" الحالي في السودان الذي يرسم طريقه على إيقاع السياسة الأمريكية والصهيونية.
مجلس السيادة السوداني الذي أقر قانون إلغاء مقاطعة "إسرائيل" تشكَّل عقب الإطاحة بنظام البشير، هو مجلس انتقالي غير منتخب، تمتد ولايته تسعة وثلاثين شهرًا، يترأسه خلال أول 21 شهرًا شخصية عسكرية، والأشهر المتبقية الثمانية عشر يترأسه شخصية مدنية، وذلك حسب الإعلان الدستوري الصادر في آب 2019م، الذي اتُّفق عليه بين العسكر وقوى الحرية والتغيير المدنية التي قادت الاحتجاجات ضد البشير.
المجالس الانتقالية بالعادة هي مجالس تصريف أعمال ليس من صلاحياتها أن تفرض سياسيات أو توقع اتفاقيات أو تقر قوانين تؤثر جذريًّا في مصير البلاد لكونها غير منتخبة ولا تعبِّر عن التوجُّهات الشعبية، ولكن ما يحدث في السودان هو تغيير لمجمل شكل وسياسات وعلاقات الدولة السودانية على نحو مخالف تمامًا لمسيرة السودان خلال القرن الماضي كله، وكأن القوى المتحكمة في السودان تسابق الزمن لتضع السودان على مسار التطبيع الكامل قبل حلول الاستحقاق الانتخابي الأول بعد البشير، والذي سيكشف الحجم الحقيقي لقوى الحرية والتغيير في السودان التي صورت نفسها صوتًا للشعب السوداني الذي خرج محتجًا على حكم البشير، وركبت موجة هذه الاحتجاجات لتطفو على سطح العمل السياسي السوداني وتتحكم بمصير السودان وترسم مستقبله بعيدًا عن نبض الشارع السوداني الحقيقي الذي يتدفق حبًّا لفلسطين.
كان بإمكان البرهان أن ينهي ولايته دون أن يلطخ سمعته العسكرية بهذا العار، إذ لم يتبقَّ له في رئاسة المجلس السيادي سوى أيام قليلة، ولكن يبدو أن الرجل قد أقدم على هذه الخطوة ظانًّا أنه يجد لنفسه مخرجًا آمنًا من السلطة وذلك خلال التوقيع على هذا القانون، في محاولة لاسترضاء قوى التطبيع العربية التي كان لها دور بارز في الإطاحة بنظام البشير ودعم قوى الحرية والتغيير، ويبدو أن قوى الحرية والتغيير التي تصف نفسها "بالقوى الثورية" قد فشلت في تقديم أي شيء جديد للشعب السوداني ولم تفِ بالوعود التي قطعتها على نفسها إبان الاحتجاجات الشعبية التي أتت بها إلى السلطة، فواقع المواطن السوداني ازداد بؤسًا على بؤس، فاتجهت قوى الحرية والتغيير نحو المسار الأكثر فشلًا والمجرب عربيًّا من قبل، وهو طريق العلاقة مع (إسرائيل) علها تجد لدى الأخيرة ما يقيل عثراتها، وما فطنت أن من سبقها من الدول العربية لم تكن نتيجة علاقاتها مع العدو الصهيوني إلا مزيدًا من التدهور الاقتصادي الذي جعل منها تابع يعيش على المعونات الأمريكية المشروطة بالمحافظة على أمن (إسرائيل).
قال موسى ديان قديمًا عن القادة العرب في سياق التخطيط العسكري: "إن العرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون وإذا فهموا لا يفعلون"، ويبدو أن هذه المقولة قد انطبقت في أيامنا هذه على بعض القادة العرب ولكن في سياق التخطيط والعمل السياسي.