المعلوم أن المفاوضات تكون مثمرة عندما تتحدد مشكلة الخلاف بين الطرفين ولكل وجهة نظر وفق مصالحه، كما أن المفاوضات تكون لازمة عندما تكون الأرضية صالحة للأخذ والرد، ويكون كل طرف قد حدد موقفه من القضية محل التفاوض إلا أن نظرية المفاوضات المعروفة عبر التاريخ قد تعطلت قواعدها في قضية سد النهضة. فقد أظهرت إثيوبيا منذ البداية أنها عازمة على بناء سد النهضة بمواصفات معينة وضربت ستارًا من السرية على أعمال البناء بل إنها لم تقدم الدراسات الصحيحة التي تعين مصر على تقدير مدى الأضرار التي تصيبها من جراء بناء السد وظلت تردد أنها لن تضر بدول المصب وأن هذا السد ضرورى للتنمية وأنه أمل الشعب الإثيوبي في الانطلاق إلى عهد جديد. وقد تبين أن الحكومة الإثيوبية تمد الشعب بمعلومات مضللة في حملة كراهية ضد مصر وشعبها بحيث اعتبر الشعب الإثيوبي أن هذا السد حتى لو أفقد مصر وجودها فهو لازم لإحياء إثيوبيا وأن مصر ظلت تفرض هيمنتها المائية على إثيوبيا وأن السد ضروري لكي تفرض إثيوبيا سيادتها على النيل الذي اعتبرته ملكها وليس ملكًا لمصر وأنها تحصل على المياه اللازمة لها وما يفيض عن حاجتها يمكن إطلاقه صوب مصر والسودان وربط وزير الخارجية الإثيوبي بين زوال الهيمنة المصرية بهذا السد وبين تحرر إثيوبيا من الاستعمار الإيطالي، وصور مصر على أنها العدو الجديد الذي قيض الله لإثيوبيا حكومة وطنية تحقق الاستقلال المائي كما حققت في الماضي الاستقلال السياسي.
وقدمت الحكومة الإثيوبية مجموعة من المزاعم القانونية كلها انتهاك للقانون الدولى ومزاعم تتعلق بحصص مصر من المياه وبعزم إثيوبيا على عدم الاتفاق مع مصر وتنفيذ ما تشاء من مشروعات من طرف واحد تفرض الأمر الواقع ولتفعل مصر ما تشاء ولم تحرك مصر أو إعلامها ساكنًا تجاه هذا الافتراء والاستعلاء والاستخفاف والتحدي بل اكتفى رئيس وزراء مصر بأن وعد بتشديد العقوبات على كل من لا يراعي الترشيد في مياه النيل دون أن يعلق بكلمة واحدة على اجتماع قيادة لجنة تنسيق إقامة السد الإثيوبي التي أكدت أنها لن تشرك معها أحدا في ملئه وإدارته وأنها لها مطلق الحرية فيما يتعلق بهذ السد وأنها لن تقدم ضمانات لسلامة السد أو الرد على المخاوف من انهياره ورغم كل ذلك تعلم مصر جيدا أن المفاوضات مضيعة للوقت ولن تحل مشكلة حجب المياه عنها أو ترغم إثيوبيا على أي زحزحة عن موقفها، ورغم كل ذلك لا تزال مصر تأمل في أن مجلس الأمن سوف يضغط على إثيوبيا لمواصلة المفاوضات العبثية تماما كما تفعل (إسرائيل) مع الفلسطينيين، رغم أن المجلس استنفد سلطته في الإحالة إلى الاتحاد الإفريقي الذي تحدته إثيوبيا وقررت المضي منفردة في مشروع الألفية ووجدت تعاطفا في الوسط الإفريقي ولمست مصر بنفسها ثقلها في هذا الوسط. فهل المفاوضات التي قررت إثيوبيا أنها عبث ولن تستأنفها، وإن وافقت على استئنافها فإنها بهدف إقرار مصر صراحة بالخط الإثيوبي حيث لم تكتفِ إثيوبيا بسكوت مصر على هذا الخط وكأنها تقره وإنما تريد مزيدًا من الإذلال بأن تنتهي المفاوضات إلى إقرار مصر بمزاعم إثيوبيا والتسليم بحقها منفردة في نهر النيل ما دامت هي دولة المنبع الأساسية. فهل تدرك الحكومة في مصر خطورة الملف والموقف الإثيوبي منه أم أنها وصلت هي الأخرى إلى التسليم بأنه قضاء وقدر وعلى الشعب المصري أن يواجه هذه الكارثة بالصبر الذي اعتاده، وبودي لو أعلنت الحكومة تفسيرا ولو قصيرا للموقف علما بأن إجراءات الترشيد يمكن أن تحل جزءا من مشكلة نقص المياه على أن تبدأ الحكومة بوقف تلويث النيل من مصانعها ولدينا ترسانة من التشريعات والقرارات التي تضمن ذلك ولكن لا يطبق منه وسوف نقدم في مقال آخر برنامجا متكاملا للتعامل مع المشكلة من نقطة الاستعصاء وحتى نبرئ ذمتنا أمام مصر وأجيالها القادمة من هذه الجائحة الأخطر.ش