مواسم العطاء أقبلت ونسماتها تجوب في الأفق، وكأنها تقرع أبوابنا، وتتفقد أنفاسنا لتقيس مدى حضورنا لاستقبال طلته البهية، وتعظيم نفحاته الجليلة، إنّه رمضان يا سادة، سيد الشهور وعنوانها، قمر السماء وشمس الأرض لتشرق بنوره وتسمو بحضوره.
لكن السؤال دومًا عن ماهية الاستعداد وتفاصيله، لكل عالمه وخصوصيته، والحقيقة أن الاستعداد الحقيقي يبدأ من ذواتنا من دواخلنا، من حدود تلكم النفس المشحونة التي مزجت بكثير من الآلام والأسى عبر عام مضى، مرورًا بتفاصيل يومية وعذابات متتابعة أبعدت الروح عن خالقها لتشوب العلاقة آثام وسيئات طريق معبد بكثير من الأشواك، والعذابات.
فالاستعداد -يا أحبة- يبدأ بجبر كسر في نفس بعدت عن خالقها، فرمضان موسم ضبط البوصلة لتتجه نحو معرفة الله، نحو الحقيقة المطلقة والصدق الأكيد.
رمضان موسم شحذ همة ضعفت ورغبة اندثرت وقدرة متواضعة، رمضان ضبط مصنعية روحًا وجسدًا، وعقلًا وبدنًا، ودينًا ودنيا، فرصة لوضع الكلمات في سياقها، والحروف على سطر التجديد والإبداع في مسارات منتظمة لتدور في فلق خالقها، لتعود لها كينونتها، وتنتظم أنفاسها ليعود البريق إلى عيونها، وتعود الرغبة في الحياة والانطلاق نحو مدبر الأكوان.
رمضان شهر صوم عن كلامٍ وسلوكٍ وعمل، وهو شهر كلام وسلوك وعمل، فروق كبيرة بين كلام وكلام وسلوك وسلوك، والواعي المدرك لحقيقة رمضان من يميز بين ذلك وتلك.
لقد آن الأوان أن نتطلق لنعود وأن نعود لننطلق، فرمضان على الأبواب وسيمضي كما مضى في أعوام ماضية، وسيعود في أعوام عديدة، ويبقى السؤال: هل سنكون في انتظاره أم سنسافر نحن بعيدًا بلا عودة ونرحل بدموع الحسرة والملامة لنفس تقود المسير نحو رغبات وشهوات ندرك تمامًا أنها زائلة؟
رمضان موسم جبر خواطر لأحبة قاطعونا، وأهل خاصمونا لينقطع حبل الود وتتفتت أواصر المحبة، ولم يشفع رمضان أو كرمه عندهم، فهلا تبادر أنت بالتواصل معهم، ومحاولة لم الشمل من جديد؟ من أجل هذا رمضان يعود من جديد، من أجل بناء علاقة أو ترميم أخرى، من أجل أنفسنا ومن حولنا.
يا سادة، لا علاقة سوية ولا رمضان خير دون نظم العلاقة مع ذواتنا أولًا لتستقيم العلاقة مع الله ثانيًا، لننطلق نحو نظم علاقات مع أحبة وأهل وخلان، تلك منظومة متكاملة عنوانها أنت وتفاصيلها الآخرون ويرعاها رب العباد، لتخرج من سياق النمطية والتقصير إلى مربع الإبداع والتطوير، تشحذها مواسم العطاء وتجدد طاقتها لتستمر وتعمر الحياة لنستحق خلافة الله على أرضه.