لا يتركنا الغرب وشأننا، يتدخلون في أدق تفاصيل حياتنا، يرسمون لنا مستقبلنا، يقرؤون واقعنا أكثر منا، ويتعرفون إلى دقائق حياتنا، ويضعون الخطط الاستراتيجية التي تمكنهم من تحديد الخطوط العريضة التي يجب أن نمشي عليها.
على أرض فلسطين العربية، تشكلت 36 قائمة انتخابية، بعضها مدعوم ماليَّا من الغرب، وبعضها ينفخ في رماده الشرق، أموال تتدفق على بعض القوائم، ملايين الدولارات توزع على المواطن الجائع، كي يدلي بصوته إلى الجهة التي منحته شوال طحين، أو كرتونة مساعدات، أو بعض دولارات، أو أعطته وعدًا بوظيفة أو ترقية، والهدف النهائي هو امتلاك العقول، والسيطرة على المستقبل، وتقرير أولوياتنا لا وفق مصالحنا، وإنما وفق أطماع الجهات الممولة.
أعرفهم بالاسم، وتعرفت إلى بعض قادة القوائم الانتخابية في بيروت، وفي عمان، وفي القاهرة، وفي الجزائر، وأستدعي الأستاذ فريح أبو مدين وزير العدل السابق شاهدًا، فقد كان كل منا يقيم في غرفة في أحد فنادق بيروت، بينما كانوا هم يقيمون في جناح كامل من الفندق نفسه، فمن الذي يدفع لهم الأجرة؟ وعلى حساب من يتبغددون؟
في أثناء انتفاضة الحجارة، لم تترك (إسرائيل) الساحة الفلسطينية تفرز قياداتها ميدانياً، تدخلت (إسرائيل) تدخلًا مباشرًا من خلال التصفيات، وغير مباشر من خلال الامتيازات، وحرصت على تشجيع بعض العناوين لتتصدر المشهد، وتعمدت النفخ في بعض الأسماء، أعطتها بريق الحريص على مصلحة الشعب الفلسطيني، والمعادي للاحتلال، وحاولت تقديمها على أنها نماذج تصلح للقيادة، لتحاكي بذلك الاستعمار البريطاني الذي نفخ في سيرة فخري النشاشيبي، وفخري عبد الهادي قبل تسعين عاماً، وقدمهم كالأبطال المنقذين، وأعطاهم المال والسلاح والنفوذ والصلاحيات، وتركهم يواجهون ثورة 36، تلك الثورة التي عجز الاستعمار البريطاني عن مواجهتها إلا من خلال العملاء، وكانت النتيجة وبالاً على الشعب الفلسطيني.
إن من يراجع تاريخ الثورة الفلسطينية التي انطلقت سنة 65 ليكتشف كثيراً من الأسماء والتنظيمات التي صُنعت في العواصم العربية والغربية، وزُوِّدت بالمال والسلاح، وجعلوا منها قواعد خدمة متقدمة لمن يدفع أكثر، بعضها اندثر مع الزمن، وانتهت صلاحيته، وبعضها ما زال يتنفس صناعياً، ويتقاضى نصيبه من أموال المقاصة الإسرائيلية.
قبل عشرات السنين، وقبل أن تلد دولة "إسرائيل" دعمت بريطانيا العظمى بعض القبائل العربية، وبعض الشخصيات المؤثرة الطموحة، وقدمت لهم المال والسلاح والمخططات، بحجة التحرر من الاستعمار العثماني، وإقامة الدولة العربية الكبرى، وكانت النتيجة وبالًا على فلسطين، وعلى الأمة العربية.
المؤامرة الإسرائيلية على القضية الفلسطينية ما كانت لتنجح لو لم يكن بيننا نحن الفلسطينيين من يتلقى الدعم المالي والسياسي والإعلامي من أعدائنا الإسرائيليين بشكل مباشر، أو غير مباشر من خلال حلفاء أعدائنا، والنتيجة واحدة، خداع الناس، والتمويه عليهم بوعود زائفة، والهدف الاستراتيجي تسهيل السيطرة الإسرائيلية على كل أرض فلسطين، وما جاورها من بلاد ستظل مفتوحة أمام الأطماع الإسرائيلية.
تقول لنا كتب التاريخ: قبل مئات السنين، نجح الفرنجة في الأندلس في تجنيد الشخصية التاريخية المعروفة "أبو عبد الله الصغير" كان الشاب طموحاً، وحاول أن ينقلب على أبيه، فألقى القبض عليه، ووضعه في السجن، فما كان من أمه "مريم" الذكية الفطنة إلا أن أغرت الحراس بالمال، لتهريب ابنها من سجن أبيه، ليفر إلى بلاد الفرنجة.
في بلاد الفرنجة ألقوا القبض على أبي عبد الله الصغير، ووضعوه في السجن مدة خمس سنوات، أسهمت في تهيئته للقيادة، بعد أن رُبط مع أجهزة المخابرات الإسبانية، إن جازت المشابهة.
وبعد أن رتب الإسبان وضعه، أفرجوا عنه، وعملوا على إعلاء اسمه، فاصطنعوا معركة وهمية، جعلوه ينتصر فيها عليهم، ويوقع فيهم قتلى، ويأخذ منهم أسرى، فصار بطلاً قومياً، ذاع صيته في بلاد الأندلس، وأضحى كفئاً لحكم غرناطة بعد وفاة أبيه.
سيطر البطل المقدام أبو عبد الله الصغير على غرناطة، ليسلمها بلا مقاومة إلى الإسبان.
صناعة القادة والزعماء ليست وليدة عقل المخابرات الإسرائيلية هذه الأيام، إنها صنيعة دهاة الساسة منذ زمن بعيد، فالحياة على هذه الأرض يتقاسمها الأسياد والعبيد.