لا يمكن الفصل بين حرب السفن الواقعة بين إسرائيل وإيران وبين محادثات "فيينا" بشأن البرنامج النووي الإيراني، فنجاح السياسة الإيرانية، وصمود الشعب الإيراني أمام الحصار، أجبر أمريكا على التراجع، والخضوع لشروط إيران، والعودة إلى اتفاق خمسة زائد واحد، ولا سيما بعد أن أظهرت إيران إصرارًا على عدم التراجع قيد أنملة، وأبت التنازل بمقدار ما يحفظ مياه وجه أمريكا، وفي النهاية لم تجد أمريكا من بد غير الخضوع، والعودة إلى المربع الأول، كي تتفادى التصعيد الإيراني في البرنامج النووي، وتجتاز التصعيد الإيراني في نسج التحالفات الدولية، والتي كسرت الاحتكار الأمريكي للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط.
النجاح الإيراني في فرض إرادته على الإدارة الأمريكية، وإجبارها على العودة إلى الاتفاقيات الموقعة سنة 2015، لا يرضي إسرائيل، ويثير مخاوفها، ويحتم عليها اتخاذ خطوات استباقية، تهدف إلى التصعيد، وتسخين الجبهات، في محاولة دعائية وإعلامية تهدف إلى خلط الأوراق، وإرباك التفاهمات الدولية مع إيران.
حسابات إسرائيل في المنطقة لا تقتصر على برنامج إيران النووي، حسابات إسرائيل تصل إلى حدود قطاع غزة وجنوب لبنان، وبالتحديد قدرات المقاومة الفلسطينية على إثارة القلق والخوف لدى القيادة الإسرائيلية، والتي أمست تدرك أن فك الحصار عن إيران، وانتعاش الاقتصادي الإيراني سينعكس قوة وصلابة وتجهيزات عسكرية للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وهذا خطر تخشاه إسرائيل، ويعمل له الجيش الإسرائيلي ألف حساب، وقد أمسى عاجزًا عن إسقاط طائرة مسيرة، تنطلق من قطاع غزة، وتحوم فوق إحدى المستوطنات، وتعود إلى قواعدها في غزة المحاصرة بسلام.
جاء الهجوم الإسرائيلي على السفينة الإيرانية "سافيز" في البحر الأحمر بمنزلة رسالة إلى المجتمعين في فيينا، بأن إسرائيل لن تسكت، وستقاتل من أجل أمنها هي، دون الاهتمام بأمن العالم وسلامته، لذلك بالغ نتنياهو مساء الأربعاء، وتجاوز الحقيقة حين قال في اجتماع حزب الليكود: "لا تجوز لنا العودة إلى المخطط النووي الخطر الموقع سنة 2015، لأن إيران نووية تشكل خطرًا وجوديًا وهائلًا على أمن العالم أجمع".
أمن العالم أجمع بحاجة إلى استقرار المجتمعات، وعدم التآمر على الدول العربية والإسلامية، أمن العالم يحتاج إلى تعاون الشعوب المحبة للسلام ضد الاحتلال، ويحتاج إلى التوصل لاتفاقات دولية تحفظ كرامة الشعوب، وحقها في تطوير قدراتها، وهذا ما لا ترضى عنه السياسة الإسرائيلية التي تعيش على الدسائس والتفرقة بين الأجناس، وتشجيع الانقسامات، وخلق المشكلات والفتن الدولية، والهدف النهائي هو أمن إسرائيل ومصالحها، لا أمن العالم واستقراره، وهذا ما عبر عنه نتنياهو بجلاء، حين عبر عن فزعه وخوفه من القوة الإيرانية المتصاعدة، فقال: يجب علينا التحرك ضد النظام المتعصب في إيران، والذي يهدد بمحونا عن وجه الأرض، سنعرف دائمًا كيفية الدفاع عن أنفسنا، من أولئك الذين يسعون إلى قتلنا.
وهذه هي الحقيقة التي فضحت خوف الغزاة الصهاينة من المستقبل، والحرص على إفساد أجواء التوافق بين إيران والدول الأوروبية وأمريكا، وأزعم أن السياسة الإيرانية التي تعتمد النفس الطويل، والتي تعرف مواطن الوجع والقلق الإسرائيلي، إيران لن تتسرع في الرد، ولن تلجأ إلى التصعيد، طالما نجحت السياسة الإيرانية في الوصول إلى مبتغاها، وتنجح في فرض نفسها قوة إقليمية يحسب لها ألف حساب.
ضمن هذا المشهد المتناقض بين قوتين إقليميتين في المنطقة، تتصارعان لبسط النفوذ على الممرات البحرية، تختفي الأنظمة العربية، وكأن منطقة الخليج والبحر الأحمر والمتوسط مناطق صراع إسرائيلي إيراني فقط، ولا شأن للعرب بهذا الوجود الاستراتيجي في عرض البحار، وهذه قمة المأساة التي تفضح عجز العرب عن حماية أنفسهم، وحاجتهم الدائمة إلى الحماية الخارجية، فإذا تراجعت الحماية الأمريكية قليلًا في هذ المرحلة، فالحماية الإسرائيلية تكفي، وكفى الله الأنظمة العربية شر القتال.