قامت الثورات الشعبية في عدد من الدول العربية، فظن المراقبون أن صفحة جديدة قد فتحت في المنطقة، وأن هذه الثورات فاتحة لتغيير الحكم وأنماطه، وكذلك أنماط العلاقات الخارجية في المنطقة، وعقدت ندوات ومؤتمرات في غضون ذلك في مصر وكثير من الأقطار العربية، خاصة في تونس وبيروت لاستشراف المستقبل الواعد، ومع أن هذه الثورات لم تذكر اسم (إسرائيل) أو الولايات المتحدة قدر المراقبون أن العهد الجديد سوف ينتصر للشعب الفلسطيني ضد (إسرائيل)، وطافت أخيلة واسعة عند هؤلاء المراقبين عن مستقبل هذه المنطقة، ولم يقدر هؤلاء المراقبون أن هذه الثورات كانت جرس إنذار لمختلف القوى المستفيدة من الوضع الراهن قبل انفجار هذه الثورات، وأنها لابد أن تعيد هذه الشعوب إلى أقفاص العبودية، وأن تفرض طوقًا من الحصار عليها، وبالفعل تنادت هذه القوى وأعادت الإمساك بالسلطة بعد أن درست أسباب هذه الثورات، وأدركت أن العبيد لا يثورون، ولذلك روجت هذه القوى أن هذه الشعوب المسالمة تحفظ الجميل لحكامها، وأن ثورتهم على هؤلاء الحكام هي إنكار لهذا الجميل، ولابد أن تكون مؤامرة خارجية على الطريقة المثلى التي قاد بها هؤلاء الحكام بلادهم، وهي النغمة نفسها التي رددها فرعون عندما واجه موسى وحذر المصريين من الاستماع إليه، بأنه حاقد عليهم ويريد أن يخرجهم عن طريقتهم المثلى في المعيشة وأن يطردهم من أرضهم.
وكانت النتيجة أن هذه القوى التي قامت الثورة ضدها عادت وهي متربصة بالشعوب ونكلت بهم في معظم البلدان، ولم يفلت من هذا المصير نسبيًّا سوى تونس، وضغطت السلطات على المتعاطفين مع هذه الثورات حتى انقلب معظم الشعب ضد هذه الثورات ولعنوها وحملوها مسؤولية كل الشرور، وتولى الإعلام تجسيد -ولو بالبركة- هذه السوءات، وهذا ما حدث للعرابيين، حتى إن عرابي عبر عن الأسى في مذكراته من تأليب الخديوي والإنجليز الشعب على الثورة العرابية، وقد نشرت مقالًا في مارس 2013 أحذر فيه من الظاهرة عنوانه: "حتى لا تتحول يناير إلى العرابيين الجدد".
وكان طبيعيًّا أن تحتفل المقاومة ضد (إسرائيل) بهذه الثورات لأنها تحرر الشعب الفلسطيني من هيمنة (إسرائيل)، ولكن فتح الجبهة السورية كشف عن بعد آخر كان مجهولًا، وهو أن الثورة في سوريا كانت تريد تغيير النظام ووضع أسس نظام ديمقراطي، وهذا هو المطلب العام لجميع الثورات بعد أن سدت نوافذ التغيير أمامها.
أما حماس فقد انحازت إلى الثورة في سوريا رغم أنها تدرك الأبعاد المعقدة لهذا الموضوع، ذلك أن دوافع الثورة في سوريا هي الدوافع نفسها في الدول العربية الأخرى، ولكن النظام في سوريا كان يشك بأنها مؤامرة إسرائيلية على نظام قومي يدعم المقاومة ضد (إسرائيل)، أدخل الثورة ضمن الصراع بينه وبين (إسرائيل)، وأصبح الثوار ضد الوطن وضد العروبة، وأن خطوط (إسرائيل) والولايات المتحدة قد وصلت إليهم، وهذه ظاهرة تحتاج إلى مزيد من الفحص والدراسة، ولكن في هذه الحالة ينتظر النظام من حماس التي فتح لها سوريا وأعانها على عملها ضد (إسرائيل) أن تفهم هذه المنطلقات، وأن تنحاز إلى النظام، خاصة أن الاستقطاب لم يكن حادًّا بين الشعب في مجمله والنظام في مجمله، وأن الحدة التي واجه بها النظام المتظاهرين هي الحدة نفسها التي اتسم بها رد فعل النظم العربية الأخرى على الثائرين عليهم.
وأما حزب الله فقد رأى أن وضع سوريا وسيطًا بين إيران والمقاومة لا يحتمل الاستهزاء بالثورات، وأن هذه الثورة سوف تفتح الباب لكي تنفذ المؤامرة بالإحاطة بالنظام، خاصة بعد أن فشلت عملية اغتيال الحريري في بيروت عام 2005 في الإيقاع بسوريا وحزب الله فور الاغتيال، وإن كانت القوات السورية قد سارعت إلى الانسحاب من لبنان، إضافة إلى انقسام المجتمع اللبناني بشأن الوجود السوري في لبنان، وقدر حزب الله أن مساندة النظام تدخل في إطار الرد الإستراتيجي على المؤامرة الإسرائيلية وبعض الدول العربية، وهكذا كانت الثورة في سوريا مناسبة لظهور مجموعات مسلحة لعدد كبير من الدول، وأصبحت سوريا مسرحًا لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية، ما عقد مهمة عودة السلام إلى سوريا وشعبها وتحول مصير سوريا إلى لعبة دولية يصعب السيطرة عليها، ودخلت إيران وحزب الله وروسيا إلى جانب الحكومة السورية كما وقفت الصين حاميًا دبلوماسيًّا للحكومة السورية في الأمم المتحدة على أساس أن الولايات المتحدة هي الطرف الآخر في المعادلة، وأنه لا بد من هزيمة الولايات المتحدة ومخططاتها على الأراضي السورية، دون أن يمس ذلك الخطط الإسرائيلية، فلا شك أن وجود حزب الله في سوريا كان قرارًا ملحًّا، فلو ترك حزب الله سوريا لمصيرها لزال الوسيط بينه وبين إيران، ولو اصطف مع الحكومة السورية دفاعًا عن وحدة الأراضي السورية ضد المخطط الإسرائيلي لتحمل الكثير من الخسائر، وكذلك الضغوط داخل لبنان، لأنه في هذه الحالة خرج عن الإطار اللبناني الذي كان يعمل فيه ووسع دائرة المواجهة مع (إسرائيل) لتشمل الأراضي السورية أيضًا، وذلك في ضوء أنه حزب مقاوم سلاحه يكتسب حصانته من تخصيصه ضد (إسرائيل).
ومن الواضح من هذه المقدمة أن هناك اختلافًا في المواقف بين حزب الله وحماس؛ فالأول انحاز للحكومة السورية، والطرف الثاني الفلسطيني ظن أنها ثورة شعبية عامة مثلما حدث في مصر فانحاز لها، ولو مددنا المواقف إلى مختلف المشاهد الثورية في اليمن ومصر وتونس، وهي الدول التي ثارت شعوبها ضد حكامها؛ لوجدنا أن ثورة الشعوب عمومًا كانت انتصارًا للشعب الفلسطيني ومقاومته، ولكن أعتقد أن هذه الثورة لم تكن في مصلحة حزب الله، فرأت إيران أن هذه الثورات تأثرت بالثورة الإسلامية في إيران، ولكن عندما تبين أن القوى الإسلامية في هذه الثورات بدأت تظهر وهي قوى سنية تكفر الشيعة غيرت إيران موقفها من الثورات العربية، خاصة بعد أن تدخلت في سوريا ضد (إسرائيل)، وبعض الخليج الذي دعم الأطراف المناوئة للحكومة السورية، ولا أقول الثوار، لأن الوضع المعقد في سوريا يقتضي الحذر في إطلاق الأوصاف على الأطراف المختلفة في المشهد السوري.
أما المقاومة الفلسطينية فقد أيدت بلا تردد كل الثورات العربية، بل إن النظام في مصر قد اتهم حماس بأنها شاركت في الثورة المصرية بإخراج المساجين من الإخوان المسلمين من سجن وادي النطرون، كما اتهم حزب الله في قضايا مماثلة، ولذلك إن هذا البعد في تحليل العلاقة بين السلطة المصرية اللاحقة على الثورة والمقاومة الفلسطينية كان ظاهرًا في التوتر الذي حدث بعد ذلك، خاصة ضد حماس، وبالأخص بعد أن دخل الجيش المصري في مواجهة مسلحة ضد الجماعات المسلحة في سيناء، ولكن عداء النظام في مصر لحماس كان متقطعًا.
أما علاقة النظام في مصر بحزب الله فإن النظام نأى بنفسه عن موجة العداء التي حركتها بعض دول الخليج ضد حزب الله، وإن كان الحكم في مصر قد أيد في الجامعة العربية إدراج المقاومة الفلسطينية واللبنانية على قوائم الإرهاب.
وأخيراً إن موقف المقاومة الفلسطينية واللبنانية من الحراك في لبنان والعراق وغيرهما قد تفاوت، وكان العامل الحاسم هو الموقف الإيراني بالنسبة لموقف حماس وحزب الله من هذا الحراك، رغم أن حماس لم تعلق على أي من المشاهد، وإن كانت تأمل ألا تؤثر هذه المشاهد في قدرة إيران على دعم معسكر المقاومة ضد (إسرائيل)، لأنها يبدو أنها ترد كل التحركات والأحداث إلى الصراع بين معسكر المقاومة والمعسكر العربي المتصهين و(إسرائيل).
والخلاصة أن (إسرائيل) تلحظ هذه الظاهرة وتحاول أن تؤكد موقفها الواضح، وهو أنها ضد الثورات العربية عمومًا لأن هذه الثورات كانت تهدف إلى تحرير الشعوب من الحكام حلفاء (إسرائيل) الذين أخضعوا هذه الشعوب ومنعوها من التواصل مع نضال الشعب الفلسطيني، ولذلك جنت (إسرائيل) أكبر المنافع عندما حققت الاختراق الدبلوماسي الشامل مع الخليج الذي كان أساسًا ضد هذه الثورات، رغم أن بعض الخليج كان يؤيد الثورة السورية وحدها، في حين وقف ضد الثورة المصرية واليمنية، ثم في النهاية أصبحت (إسرائيل) هي المستفيد الأول من قمع هذه الثورات، وذهب بعضٌ من النظم العربية إلى عدّ (إسرائيل) هي التي حركت الشعوب العربية حتى تظفر بهذه النتيجة.
أما الحراك فلم تعارضه حماس وأيدته (إسرائيل)، في حين ناهضه حزب الله، ما يحتاج إلى المزيد من التحليل.