حين كانت تأتي لزيارتي في سجن نفحة الصحراوي، كنت أسأل زوجتي عن أحوالهم في البيت، فكانت تقول لي: لا تقلق، نحن بخير، ربنا كبير، وفي غزة الخير كثير.
في ذلك الوقت، كنت أعود إلى غرفة السجن مندهشًا، من أين لهم ثمن الطعام والملابس والمصروفات اليومية؟ وكيف تقول لي: الخير كثير؟!
وفي كل مرة زارتني في السجن، كنت أسألها عن أحوالهم، كانت تردد الجملة نفسها: لا تقلق، ربنا كبير، والخير كثير!
عشر سنوات خلف الأسوار، وأنا أفكر بستة أطفال وأمهم، كيف يصرفون؟ كيف يعيشون؟ فقد تركتهم بوادٍ غير ذي زرعٍ، ولم أترك خلفي شيقلًا واحدًا في البيت؟ وقد فُصلت من وظيفتي، وقُطع راتبي مجرد اتهامي بأعمال معادية لإسرائيل، وصودرت سيارتي، فمن أين لأطفالي الستة وأمهم الملابس والمأكل والمشرب؟
وما انفكت تردد في كل زيارة: لا تقلق، ربنا كبير، والخير كثير، حتى جاء يوم التوقيع على اتفاقية القاهرة 1994، وخرجت من السجن، وأنا أتوقع أن أنام في غرفة مسقوفة بألواح الأسبست، كما تركتُها منذ زمنٍ بعيد، فإذا بي أبيت تحت سقف من الباطون المسلح، فقد شيَّدت الأونروا لنا بيتًا جديدًا، وبدل أن أجد الأسرة مدانة للناس، وجدت في البيت ستة آلاف دولار مُدَّخرة، ستة آلاف دولار في ذلك الوقت يُشترى بها قطعة أرض على بحر غزة، ووجدت في البيت من الملابس والأغطية ما يكفي حاجة أهل البيت ويفيض.
ووسط الدهشة، سألت زوجتي: من أين لكم كل هذا؟
قالت: مجرد دخولك السجن، دخلنا جنة الرحمن، وانهالت علينا الهدايا والعطايا والمساعدات، لم نعرف من أين انصبَّت علينا الأموال صبًّا؟ ونحن لم نصل بشرًا بحاجة، ولم نمد اليد، ولم ندق على باب الجمعيات، ومع ذلك توفَّرت لدينا الفلوس، والأغذية، والأغطية، والملابس، لقد عشنا في بحبوحة، بل صرنا نوزع معلبات وطحينًا وأرزًا وأغطية على الأقارب والجيران.
وأضافت زوجتي رحمها الله: نحن نساء الأسرى وأرامل الشهداء والفقراء والمحتاجين واليتامى والمساكين لا يتخلى عنا المجتمع، يفتح الناس لنا قلوبهم، قبل أن يفتحوا لنا جيوبهم، وتفتح لنا الجمعيات والمؤسسات الخيرية أبوابها، بل تتصل بنا إن ابتعدنا، وتسأل عنا إن تأخرنا، وتقدم لنا كل أنواع المساعدات، كل ذلك في زمن الاحتلال الإسرائيلي، وقبل أن تُنشأ مؤسسات رسمية لرعاية الأسرى والجرحى والشهداء والأيتام والأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة.
وأضافت بسخرية: كانت حياتنا المادية قبل خروجك من السجن أفضل مما نحن عليه اليوم!
أَستشهدُ بحال زوجتي وأنا سجين، لأصدَّ كيد أعداء غزة، وهم يرددون: غزة جائعة، غزة تضحي بشرفها من أجل عشرة شواكل، أرامل الشهداء ونساء الأسرى تتسول الطعام والشراب، الأطفال الفقراء يبحثون عن طعامهم في الحاويات، اليتامى محرومون بائسون، ونسوا درس التاريخ الذي قال: على أرض فلسطين التي باركنا حولها لا يموت الناس من جوعٍ، فعلى هذه الأرض كوّار الزيت لا ينضب، وخابية القمح لا تفرغ.