يعيش أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة حالة تشبه الكر والفر مع فيروس كورونا، يحاول هذا المقال أن يرصد مراحل تعامل المجتمع مع هذا الفيروس القاتل، ومتى تحقق النجاح وتوفرت الحماية للناس، وفي أي الحالات زادت المخاطر ووقع الأذى على الناس، وذلك بهدف تسجيل بعض الدروس التي يمكن أن تُشكِّل رؤية مناسبة للتعامل الاجتماعي مع فيروس كورونا، وتقليل المخاسر الناجمة عنه في الأرواح والأموال.
يمكن تسجيل طريقة تعاملنا مع المرض من خلال المراحل التالي: كانت المرحلة الأولى، في مارس 2020، بمثابة مرحلة الإنكار في البدايات، ويمكن القول إن ذلك الإنكار كان طبيعيًا، فنحن نواجه ظاهرة جديدة، لم نعرف عنها من قبل، ونقرأ عنها كلامًا متضاربًا في وسائل الإعلام، ولهذا يمكن أن نجد لأنفسنا العذر عما حصل حينها.
ثم جاء التدخل الرسمي بالإغلاق، وفرض حالة الطوارئ، ومع طول المدة، وبقاء قطاع غزة خاليًا من حالات الكورونا، فترت همة الناس، وتحوّل استنفارهم في اتخاذ الاحتياطات إلى استرخاء، وانتشرت تفسيرات مختلفة لما حدث، حيث اعتبر البعض أن قصة الفيروس لعبة من أجل جلب التمويل، بينما اعتقد آخرون أن الله قد حمى غزة لأنها بلد المقاومة، وبدأت المطالبة بفتح الأسواق، وإعادة الحياة إلى طبيعتها، وهذا ما حدث.
وفي صيف 2020 دخلت المرحلة الثانية عندما انتشرت أخبار وجود الفيروس في المنطقة الوسطى، وقد تعاملنا معها بشيء من الرعونة، حيث وزعنا الاتهامات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحمّلنا المسئوليات لأشخاص ومناطق، وهذا ما حصل أيضًا في المرحلة الأولى، من محاولة مواجهة الفيروس، عندما تم اكتشاف حالة عائدة من باكستان مُصابة بالفيروس.
واستمرت المرحلة الثانية حتى نهاية عام 2020، ولم يتم وقف التصاعد في أرقام المصابين بالفيروس إلا بإجراءات مشددة اتخذتها الحكومة، ومنها منع الحركة ليلًا، إضافة إلى حظر تجول يومي الجمعة والسبت، ومنع التجمعات، وإغلاق صالات الأفراح، ووقف التعليم في المدارس والجامعات، والاعتماد على التعليم الإلكتروني، إضافة إلى أن إمكانيات وزارة الصحة قد شهدت هذه الفترة تحسنًا في قدراتها على معالجة الحالات الصعبة، لكن السبب الأهم في جعل انتشار الفيروس يتراجع حد الانحسار، تمثّل في إجراءات الوقاية وتخفيف الاحتكاك.
وهنا لا بد من الانتباه إلى مجموعة سمات تُميز سلوكنا الاجتماعي، وهي: الإنكار أولًا، ثم الانتقال إلى الخوف الشديد الذي يصل حالة الذعر، واللجوء إلى قذف الاتهامات وتحميل المسئوليات دون تمحيص، إضافة إلى القفز من حالة الاستنفار الشديد إلى حالة الاسترخاء غير العقلاني، وضعف القدرة على استخلاص العبر.
في مثل هذه الحالات لا بد أن يقف المثقفون والأكاديميون والدعاة والوجهاء وقادة وكوادر الفصائل، ويطلقوا مبادرات للحث على الالتزام بدافع ذاتي، فالمسألة أصبحت أوضح من الشمس، والمعادلة كالتالي: كلما زادت إجراءات التباعد والسلامة والوقاية كلما انحسرت أعداد الإصابات، وبالتالي يبقى المجال مفتوحًا أمام استمرار حركة الحياة لكل شرائح المجتمع، والعكس صحيح.
يجب أن نبتعد عن السلوك الأرعن في حالة الخوف الشديد، كما ينبغي لنا أن نبتعد عن الاطمئنان الشديد عندما يبتعد الخطر قليلًا، لأن الرعونة المبالغ فيها، والطمأنينة الزائدة هي من سمات الشعوب المتخلفة، أما الشعوب المتحضرة فهي التي يتسم سلوكها بالاتزان في حالتي الخوف والأمن.
الآن، ومع بداية ربيع 2021 ندخل المرحلة الثالثة من مواجهتنا لفيروس كورونا، ويمكن القول إنها مرحلة الضربة الشديدة والانتشار الواسع والموت المتزايد، وفي المقابل نشاهد حالة من الاسترخاء الشديد على صعيد الالتزام بإجراءات السلامة والوقاية، وفي المقابل بدأت الحكومة تشديد الإجراءات، لكن واضح أن هذه الإجراءات لن توقف الانتشار المتسارع للمرض، وإنما هي بداية لإجراءات أكثر حزمًا وتصاعدًا وتشديدًا، ومع وصول الإجراءات إلى ذروتها واستمرارها أسبوعين أو أكثر سيتوقف انتشار الفيروس، بعد أن نكون قد خسرنا أعدادًا أكثر من الموتى، ومزيدًا من الموارد الاقتصادية التي هي شحيحة في أوضاعنا العادية تحت الحصار.
لماذا نحتاج إلى تكرار هذا المسلسل؟ يبدو أننا جميعًا كمثقفين وأكاديميين ودعاة ووجهاء وقادة فصائل، كأننا جميعًا فقدنا الثقة بأنفسنا وقدراتنا على الاستنفار الحضاري في مواجهة فيروس كورونا، أي الاستنفار المتوازن دائمًا وباستمرار، لماذا لا تبدأ حملات لا تتوقف من قِبَل من يعتبرون أنفسهم نُخَبًا اجتماعية يتم فيها التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف الواجب فيما يتعلق بمواجهة فيروس كورونا، والنهي الضروري عن المنكر من السلوك، ذلك السلوك الذي يؤدي إلى مزيد من انتشار هذا الفيروس القاتل.
نحن في هذه اللحظة، مع بدء انتشار الفيروس وقيام الحكومة بإجراءات التشديد، أمام احتمالين: الاحتمال الأول يتمثل في استمرار انتشار الفيروس ومعه تزايد الموت، ومن ثم قيام الحكومة بتشديد الإجراءات بالتدريج، حتى يصل تفشي الوباء إلى ذروة لا يحتملها الجهاز الصحي في البلد، وبالتالي تصل الإجراءات الحكومية إلى نهايتها بالإغلاق الكامل، وما يرافقه من خسائر اقتصادية، ومع الوقت سيخف انتشار المرض، ونعود إلى تخفيف الإجراءات، إلخ.
والاحتمال الثاني يتمثل في قيام مبادرات، الآن وليس غدًا، لكي نحث بعضنا بعضًا، وبدوافع أخلاقية ومصلحية، على الالتزام بإجراءات السلامة والوقاية، إن فعلنا هذا سنوفر على أنفسنا آلامًا وضحايا ومخاسر في الأرواح والأموال، وإن لم نفعل فسنكون أمام المزيد من الخسائر.
فهل سنفعل؟!