فلسطين أون لاين

الإسراء والمعراج تمحيص واصطفاء

...
د. ماهر السوسي أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية -غزة

إذا كان الإسلام هو رسالة الله (تعالى) الخالدة إلى الناس أجمعين، وإذا كان التوحيد هو دعوة الله إلى البشر أينما كانوا وأينما حلوا، فإن هذه الرسالة وهذه الدعوة لا بد لها ممن يحملها وهو مؤمن بها، مصدق لها، على يقين بأن ما يحمله هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مهما كذب المكذبون.

وقد جرت سنة الكون على أن الكفرة بالتوحيد مستهزئون متكبرون، قال الله (تعالى): "قَالَ الذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنا بِالذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ" (الأعراف: 76)، وغير ذلك عشرات الآيات في كتاب الله (تعالى) تصف حال المستكبرين المعاندين، فلم يخلُ زمن نبي من الأنبياء إلا كان فيه أمثال هؤلاء المرجفين، ولكن كانت العاقبة دائمًا للمتقين كما وعد الحق سبحانه وتعالى، إذ قال على لسان نبيه موسى (عليه السلام): "قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِن الأَرْضَ لِلهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتقِينَ" (الأعراف: 128).

وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد لله من أن يمحص من يختارهم لحمل رسالته، ومن ثم يصطفيهم من بين جميع البشر، يقول الله (تعالى): "اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ الناسِ إِن اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" (الحج: 75)، والاصطفاء يعني اختيار الأفضل من بين الفضلاء، وهذا لا يكون إلا من بعد تمحيص، وهو الاختبار والابتلاء.

وقد كانت حادثة الإسراء والمعراج في وقت كان فيه المسلمون في أشد حالات ضعفهم، بعد أن مات عم النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي كان يؤازره بالقوة والحماية، وبعد أن ماتت زوجه خديجة (رضي الله عنها)، التي كانت تمده بالمال والزاد، فكان المسلمون وقتئذ في حال لا يحسدون عليها، لا نصير ولا مدد، إلا ما كان يرجوه الراجون من الله وحده، زاد ذلك كله عزوف كل قبائل العرب عن نصرة النبي (صلى الله عليه وسلم).

قد لا يكون هوان أكثر من هذا، وقد لا يكون ضعف أكثر من هذا، وقد يشعر إنسان بضيق في العيش، وفقد للأمن، أكثر مما كان يشعر النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام، لكن الأرض إذا ضاقت بالمصطفى (صلى الله عليه وسلم)، لا بد أن يكون له مكان أسمى، ومنزلة أعلى، فهو حبيب الرحمن، فكان لسان قدر الله (تعالى) أن إذا ضاقت بك الأرض، فلتسعك السماء، فأسري به إلى المسجد الأسير الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء.

ليس لنا أن نسرد ما لاقى (عليه السلام) عند ربه في ذلك الوقت، لكن نعرج على موقف الناس من هذه الحادثة وقتئذ، فقد ازداد الكفار كفرًا، وارتد ضعيفو الإيمان عن الإسلام، وارتاب آخرون، لكن ثبت أمثال أبي بكر ومن معه (رضي الله عنهم)، وزادهم ذلك إيمانًا وتصديقًا، فكانوا بعد ذلك حملة الإسلام، إلى أن وصلوا به إلى مشارق الأرض ومغاربها، فآزرهم الله تعالى به.

وما أشبه اليوم بالأمس، فالمسلمون اليوم أذلة مهانون، وبلغ الضعف بالإسلام ما بلغ، وأصبح كثير من المسلمين يتوجهون تجاه الشرق مرة، وتجاه الغرب مرة، وكأن في قلوبهم ريبًا، والقلة هي التي ما زالت مصدقة بالله (تعالى)، هذه الفئة ما زالت تقول: "هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ" (الأحزاب:22)، يقولون ذلك لعلمهم أن الله (تعالى) يمحص المؤمنين، ويصطفيهم بالشدائد، فلا يقنطون من رحمته، ويزدادون إيمانًا به، وتسليمًا بقضائه، وصبرًا على ابتلائه.