اعتمدت حركة حماس في السنوات الأخيرة سياسة سحب الذرائع في علاقتها مع حركة فتح، وعمدت إلى تذليل أي عقبات أمام إنهاء الانقسام بين الضفة وغزة، وقدمت تنازلات سياسية وميدانية متعددة باتجاه تطبيق اتفاقيات المصالحة سعيًا منها نحو تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية.
وضمن هذه السياسة تنازلت حماس طوعًا في اتفاقية الشاطئ سنة 2014م عن حكومة إسماعيل هنية، وأصدرت منتصف 2015م وثيقتها السياسية التي تُحقق الحد الأدنى من التوافق الوطني على برنامج سياسي مشترك، وفي سبتمبر 2017م حلَّت لجنتها الإدارية ووافقت على تمكين حكومة الحمد لله من إدارة قطاع غزة، وتنازلت عن إدارة المعابر الحدودية وسلّمت المقرات الحكومية في إطار تطبيق اتفاق القاهرة آنذاك.
كما بادرت حماس من خلال اتصال هاتفي أجراه إسماعيل هنية في يناير 2020م إلى دعم عباس سياسيًا في إطار مواجهة مخطط صفقة القرن، ووافقت خلال اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية ببيروت في أيلول 2020م على تفعيل المقاومة الشعبية كخيار أنسب للنضال الفلسطيني في هذه المرحلة.
وواصلت حركة حماس سياسة تقديم التنازلات لصالح حركة فتح بموافقتها في اجتماعات إسطنبول نهاية أيلول 2020م على خيار عباس بإجراء الانتخابات التشريعية على أساس التمثيل النسبي الكامل رغم مخالفة ذلك نصوص القانون الأساسي الذي أُقِرّ سنة 2005م، والذي نصّ على حق الفلسطينيين بالترشُّح أفرادًا وجماعات، ثم تنازلت حماس مرة أخرى لصالح عباس بالموافقة على إجراء الانتخابات بالتتابع وليس التزامن، وذلك في رسالة بعث بها إسماعيل هنية إلى عباس مطلع يناير الماضي.
وفي حوار القاهرة الأخير وافقت حماس على رؤية فتح بترحيل جميع الملفات المتعلقة بالانقسام إلى ما بعد إجراء الانتخابات التشريعية وتشكيل الحكومة الفلسطينية، رغم أن هذا التنازل يمسّ شرعية المؤسسات الحكومية والقضائية العاملة في غزة، التي لا تعترف بشرعيتها السلطة الفلسطينية، ويهدد الحقوق الوظيفية لعشرات الألوف من موظفي غزة الذين ساندوا المقاومة وعانوا نتيجة الحصار طيلة السنوات الماضية.
وخلال الأيام الماضية ورغم نكوص حركة فتح عن نتائج حوار القاهرة فيما يتعلق بشروط الترشّح للانتخابات، وتشكيل محكمة الانتخابات، وافقت حماس على رؤية فتح بعدم تعيين قضاة محسوبين على تيار المقاومة أو الذين عُيِّنوا بعد أحداث الانقسام سنة 2007م، وأقرّت بأسماء القضاة المستنكفين عن العمل منذ خمسة عشر عامًا، الذين فرضتهم حركة فتح أعضاءً في محكمة الانتخابات، رغم أن هذا التنازل يعزز من عدم شرعية المنظومة القضائية في غزة، التي لطالما صدحت بها السلطة الفلسطينية وحركة فتح.
كما وافقت حماس، في إطار خطواتها الهادفة إلى تعزيز الحريات العامة، وتهيئة الأجواء للانتخابات، على عودة العشرات من أبناء حركة فتح الذين غادروا غزة بعيد أحداث الانقسام سنة 2007م، وأفرجت عن خمس وأربعين من الموقوفين على قضايا أمنية من المحسوبين على حركة فتح، وأتاحت المجال لكوادر الحركة وقياداتها الوافدة من رام الله بعقد الاجتماعات التنظيمية، والقيام بالأنشطة العلنية في إطار الاستعداد لخوض الانتخابات المقبلة.
اللافت في تنازلات حماس المتكررة لصالح حركة فتح أنها تأتي من طرف واحد دون أي مقابل سياسي أو خطوات ميدانية من حركة فتح أو السلطة الفلسطينية، فالملاحقات والاعتقالات السياسية ما زالت سارية ميدانيًّا في الضفة المحتلة، كما أن السلطة لم تُفرج عن أي من المعتقلين السياسيين في سجونها، ولم تتراجع عن عقوباتها الجماعية تجاه غزة، في حين استمر عباس بالتفرد بالقرارات المصيرية، حيث أعاد تشكيل المنظومة القضائية في الضفة بما يمس استقلاليتها، ووقّع اتفاقية غاز غزة قبل أيام مع الجانب المصري منفردًا، واستمر بإصدار مراسيم بقوانين دون تشاور مع أي من القوى السياسية أو المجتمعية الفلسطينية.
ورغم أن حماس تقدم تنازلاتها المتكررة في إطار حرصها على الوحدة الفلسطينية ومراهنتها على رصيدها الشعبي وقوتها الميدانية وعلاقاتها الدبلوماسية مع القوى والأنظمة الإقليمية، فإنها تعزز بطريقة أو بأخرى من شرعية عباس السياسية، وهي حتى اللحظة لم تستطع تسويق تنازلاتها غير المبررة أمام حاضنتها الشعبية أو صفّها التنظيمي الداخلي، كما أنها لا تمتلك أي ضمانات باعتراف عباس وحركة فتح بنتائج الانتخابات المقبلة، أو القبول بشراكة سياسية مع حركة حماس بما يضمن الوصول إلى تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني نهاية أغسطس المقبل وفق التفاهمات.
ومن ناحية أخرى فإن سياسة سحب الذرائع التي تنتهجها حماس وتنازلت بموجبها عن إنجازاتها التشريعية والحكومية والقضائية في غزة دون مقابل قد تدفع عباس إلى التشبّث بقراراته، وطلب المزيد من التنازلات، كما أنها تمنح حركة فتح هامشًا كبيرًا من المناورة السياسية في حال فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية المقبلة، فالمدخل الوحيد للوحدة الفلسطينية هو تطبيق اتفاقيات المصالحة وفق الشراكة السياسية لا التنازل من طرف واحد وترحيل القضايا العالقة التي تمس الشارع الفلسطيني إلى مستقبل مجهول.