يشهد النظام السياسي الفلسطيني منذ عقود حالة من التأزُّم المتواصل، ويمكن تلخيص هذه الحالة تحت عنوانين رئيسين، وهما: التراجع التنظيمي المؤسسي، والتراجع البرنامجي.
بدأ التراجع التنظيمي المؤسسي في إطار منظمة التحرير الفلسطينية حيث همش المجلس الوطني لمصلحة سيطرة اللجنة التنفيذية، واعتماد البرنامج المرحلي عام 1974 دليل بارز على هذا التراجع، إذ حُسم الأمر في نقاشات الأمناء العامين للفصائل، ولم يُناقش في المجلس الوطني، وإنما عُرِض لأخذ الموافقة.
وبعد ذلك حدث تهميش اللجنة التنفيذية لمصلحة احتكار رئيسها للقرار، ومثَّل اتفاق أوسلو عام 1993 أبرز دليل على هذا التراجع، إذ تفاوض أبو عمار سرًّا دون علم اللجنة التنفيذية، ووقع الاتفاق دون موافقتهم، وعندما أراد عقد اجتماع للجنة التنفيذية بعد توقيع المعاهدة لم يتوافر له النصاب القانوني لعقد الاجتماع.
وبعد تشكيل السلطة عام 1994، التي يُفترض أن تكون تابعة لمنظمة التحرير، السلطة ابتلعت المنظمة، وهُمِّشت المنظمة بالكامل لمصلحة السلطة، أما بعد فوز حركة حماس في انتخابات عام 2006 فقد حُوّلت (م ت ف) إلى أداة يستعملها السيد محمود عباس في مناكفة خصمه السياسي.
أما على صعيد البرنامج السياسي فيمكن القول إن قيادة النظام السياسي الفلسطيني قد غيّرت الأهداف التي انطلقت لتحقيقها، والمتمثلة في (تحرير كامل التراب)، واستبدلت بها تحقيق السلام من طريق ما يُسمّى حل الدولتين، إضافة إلى أنها تنكرت للوسائل والأدوات التي كانت تعدها وحيدة (الكفاح المسلح)، وغيرت خريطة الأصدقاء والأعداء.
وأمام هذا المشهد البائس جرت محاولات عديدة للإصلاح، لكنها باءت بالفشل، وأثبت النظام السياسي الفلسطيني عجزه عن إصلاح ذاته، وليس أدل على الفشل والعجز من انتهاء حوارات ومفاوضات المصالحة إلى صفر كبير، ولا يُتوقع أن يؤدي مسار الانتخابات إلى شيء مغاير.
إن أي مستشرف مبتدئ يستطيع القول إن الشعب الفلسطيني أمام السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: ثورة الشعب الفلسطيني على هذا النظام البائس، والعاجز عن القيام بوظائفه الأساسية المتمثلة في حماية وجود الشعب الفلسطيني، والسعي إلى تحقيق أهدافه بالتحرر والاستقلال، بل إن الأمر تدهور إلى حد عجز النظام السياسي عن توفير حياة كريمة للإنسان الفلسطيني، ويرجح هذا السيناريو وصول الأمور إلى حالة من الانسداد، وغياب للفعل القيادي الفلسطيني في مواجهة تحديات تهويد القدس، ومعاناة الأهل في الأرض المحتلة عام 1948، وضياع أرض الضفة لمصلحة الاستيطان، إضافة إلى استمرار حصار قطاع غزة وما ينتج عنه من ويلات.
لكن الذي يؤخر هذه الثورة هو غياب القوى المنظمة القادرة على خوضها، إضافة إلى قدرة قيادة النظام السياسي الفلسطيني البائس على تضليل الناس بمقترحات إصلاحية وهمية كل مدة.
والسيناريو الثاني يتمثل في إمكانية انفضاض أبناء الشعب الفلسطيني عن الراية الوطنية، وتحولهم إلى جماعات أولية تنشغل كل واحدة منها بالبحث عن الماء والكلأ بعيدًا عن أي أهداف وطنية جامعة، ويدعم هذا السيناريو وصول شرائح واسعة إلى حالة من اليأس بسبب حالات الفشل المتكررة للمقترحات الإصلاحية، وشعور شرائح أخرى بالعجز عن فعل أي شيء بسبب عدم توافر الإمكانات.
أما الذي يؤخر هذا الانفضاض فهو بقية الخير التي لا يزال شعب فلسطين يختزنها من موروثاته الأخلاقية، وقيمه التراحمية والإيمانية التي تجعله أكثر قدرة على الاحتمال، وأكثر ميلًا للتفاؤل بأن الأيام الجميلة لم تأتِ بعد.
والسيناريو الثالث يتمثل في نهوض المثقفين والأكاديميين والقوى الاجتماعية من عائلات وغيرها، وجماعات المصالح مثل النقابات والمبادرات الشبابية والمجتمعية المختلفة بتشكيل تحالفات فيما بينها، لملء الفراغات التي يعجز النظام السياسي عن سدها ويُدير ظهره لها، إضافة إلى الضغط على النظام السياسي لكي يُصلح أوضاعه، في النهاية عمل عقد اجتماعي جديد يركز على القضايا التالية:
أولًا: حصر دور السلطة الفلسطينية في الأدوار الإدارية والخدمية، ونزع أي دور سياسي لها، بسبب ارتباطها بالاحتلال بنيويًّا.
ثانيًا: تكوين قيادة وطنية لمنظمة التحرير، تتولى الشأن السياسي والوطني في إطار إعادة بناء حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وليس دولة تحت الاحتلال.
ثالثًا: استنهاض قوى المجتمع الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، واستخراج الموارد الكامنة داخلة، لكي تُشكل هذه القوى حاضنة لفعل التحرر الوطني، لا عبئًا عليه.
يدعم هذا السيناريو العديد من المؤشرات التي تُفيد أن المجتمع الفلسطيني قادر على التحرك، لو توافرت قيادات شعبية مُلهِمة، ومن هذه المؤشرات نجاح أهلنا بمدينة القدس في إفشال مشروع نصب البوابات الإلكترونية على أبواب المسجد الأقصى قبل عدة سنوات، وقبلها تمكن أهلنا في الأرض المحتلة عام 1948م من إفشال مشروع برافر لتهويد النقب، وما زالوا بالجهود الشعبية يواجهون سياسة الاحتلال في حراك مدينة أم الفحم المناهض لتواطؤ دولة الاحتلال وشرطتها مع الجريمة المنظمة.
وكذلك تنظيم أبناء الشعب الفلسطيني في الشتات أنفسهم من طريق مؤتمرات فلسطينيي أوروبا، أو مؤتمر فلسطينيي الخارج، في محاولة منهم لملء الفراغ القيادي الخطر.
لقد أظهر الشعب الفلسطيني بأسًا لا يُنكره عاقل في التعامل مع التحديات التي تواجهه، منها ما ذكرناه آنفًا، ويُضاف إليها صمود المجتمع الفلسطيني في غزة في وجه ثلاث حروب طاحنة.
إن هذا البأس الذي يُظهره المجتمع الفلسطيني في مواجهته التحديات يجب ألا يقتصر على مواجهة الكوارث، بل يجب أن يتحول إلى عمل مستمر بطرح الأفكار، وبلورتها بالنقاش العام، حتى يتمكن المجتمع الفلسطيني من بناء منظومة عمل مبادرة، ومستندة إلى المعرفة، وتتمكن من محاصرة بؤس النظام السياسي الفلسطيني، وتخليصه من عيوبه، وإجباره على السير على طريق الإصلاح.