بعد انقشاع خطر الوباء سيعود الصراع في المنطقة إلى طبيعته، وإزاء ما لاحظناه من الاتجاه العربي إلى التماهي مع (إسرائيل) ضد إيران، وهو غير عقلاني، لذلك إن هذا التحليل يفترض أن القضية الأساسية في المنطقة هي المشروع الصهيوني، وإن المشروع الإيراني منافس وعقبة في طريق هذا المشروع، وكلاهما يتصارع مع الآخر للسيطرة على الجسد العربي، وتكمن مصالح العرب في هزيمة المشروع الصهيوني وترشيد المشروع الإيراني.
عندما يعلن نتنياهو بعد لقائه زعماء مصر والأردن أن الخطر الإستراتيجي حل محل الصراع العربي الإسرائيلي، وأن هناك تفاهمًا إسرائيليًّا عربيًّا على ذلك أول مرة منذ إقامة (إسرائيل)، فإن هذا التصريح إما أنه يعكس تفاهمات حقيقية كما يقول، في وقت تعلن فيه واشنطن أن أولوياتها المطلقة في المنطقة هي إيران وكيفية مواجهتها، وإما أنه يعبر عن تمنياته بأن يصطف العرب معه في معركته ضد إيران، وفي هذه الحالة يجب على الدول العربية المعنية أن توضح موقفها من الصراع الجديد بين إيران و(إسرائيل).
وهناك حقائق لا يجوز أن تغيب وراء السحب التي تنشرها واشنطن و(إسرائيل) حتى تتغيب الرؤية العربية الصحيحة، كما يجب أن يحدد العرب بوصلتهم وفقًا لهذه الحقائق.
الحقيقة الأولى هي أن المصلحة العربية المؤكدة هي أن تتجاوب (إسرائيل) بلا أي مقابل في ملف إيران أو غيره مع المبادرة العربية للسلام، وأي التفاف عليها مرفوض، ويتطلب البحث عن سبيل أكثر جدية لمواجهة (إسرائيل) في ملف الصراع.
الحقيقة الثانية هي أن الصراع العربي الإسرائيلي أساسه زرع (إسرائيل) في المنطقة، وأن عملية التبسيط والتقليل من مخاطر المشروع الصهيوني، التي نسمعها من بعض المسؤولين، وبعض السياسيين العرب، وبعض الأوساط تعبر إما عن يأس من المواجهة وإرهاق من طول هذه المواجهة، أو يأس من الحال العربية، أو تناغم مع المشروع الصهيوني.
يترتب على ذلك أن (إسرائيل) هي العدو الدائم، وأنه لا يمكن مقاومتها، بخلاف ما يحدث الآن بإيران أو غيرها، بل ذهب بعضٌ إلى أن إيران أخطر على العرب من (إسرائيل)، وتلك قد تكون نظرة آنية غير إستراتيجية ناجمة عن خطر الحال وليس أخطار المآل، فقد نفهم أن بعض العراقيين يرون إيران خطرًا أكبر من (إسرائيل)، وهم يعلمون أن (إسرائيل) شاركت وحرضت وساهمت في غزو العراق، وأن دمار العراق كان دائمًا مطلبًا إسرائيليًّا، كما تتمنى دمار مصر وغيرها من الدول العربية الرئيسة، وقد نفهم أن الكويتيين تضرروا من صدام حسين وليس من (إسرائيل)، ما جعل العراق صدام وليس (إسرائيل) هي الخطر المآل بل الخطر المفترض.
والقول نفسه ينطبق على سكان البحرين، كما قد يرى المغاربة في أقصى الأرض أن عداءهم لـ(إسرائيل) يقوم على أساس التضامن مع الفلسطينيين والتعاطف معهم ضد وحشية (إسرائيل)، ولكن الذي لا أفهمه مطلقًا أن توافق الأردن ومصر أو غيرهما على أن تضرب (إسرائيل) إيران، لأن ذلك يعنى أمرين لا ثالث لهما: الأول هو أن (إسرائيل) تحارب إيران نيابة عنهم، وهذا غير صحيح، والثاني هو أن (إسرائيل) ليست مطالبة بأي التزام تجاه العرب حتى تنتهي من تسوية ملفها مع إيران، والتسليم بذلك يجافي أبسط مبادئ الفهم لقواعد اللعبة الأساسية الأولية، وهي أن (إسرائيل) المنتصرة على إيران مع (إسرائيل) المعتدية بحكم مشروعها سوف يطلق مشروعها في جسد العالم العربي بلا كوابح، ومعنى ذلك أن العرب يحاربون قضاياهم عمليًّا، في حين يظهرون نظريًّا حرصهم على الدفاع عن هذه المصالح، ولا أظن أن عربيًّا واحدًا حاكمًا أو محكومًا يوافق على هذا المنطق السقيم.
الحقيقة الثالثة هي أن العرب لا علاقة لهم بملف إيران مع (إسرائيل)، وأن انشغال (إسرائيل) بهذا الملف دون مستحقات السلام المطلوب منها لا يعفيها مطلقًا من استحقاقات هذا السلام، ولذلك إن موقف العرب يجب أن يراوح بين اتجاهين: إما الحياد التام في هذا الصراع الذي يقوم بين مشروعين متنافسين على جثة العالم العربي، وإما منع المواجهة العسكرية أصلًا حتى لا تطال العالم العربي شظايا هذه المعركة المدمرة، أما الاصطفاف العربي مع (إسرائيل) ضد إيران فهو انتحار، كما أنه يلحق بالعرب ثلاث مجموعات من الخسائر بشكل محقق: الخسارة الأولى هي صرف الضغط على (إسرائيل) لمصلحة العرب وإفلاتها من الاستحقاقات السياسية والجنائية بسبب وحشيتها ضد الفلسطينيين، والخسارة الثانية هي حتمًا التفاهم الإسرائيلي الإيراني على حساب العرب دون شك، والخسارة الثالثة هي اقتسام إيران و(إسرائيل) العالم العربي.
فإذا جاز للحكام العرب أن يجتهدوا في اتخاذ المواقف؛ فإنه في هذا الموقف تحديدًا الذي يضر بالعرب ضررًا بالغًا لا أظن أنهم يملكون ترف القرار، وإن أمامهم قرارًا واحدًا هو إنقاذ بلادهم من الأضرار المحققة لأي صراع عسكري إيراني إسرائيلي، ودفع (إسرائيل) إلى التخلي عن مشروعها في العالم العربي.
الحقيقة الرابعة: من الخطأ مساندة العرب لـ(إسرائيل) ضد إيران على أمل أن تبدي (إسرائيل) مرونتها في ملف الصراع العربي الإسرائيلي الذي تخلى عنه العرب أصلًا، وسبب الخطأ هو أن العرب سوف يخسرون في هذه الصفقة كما خسروا في جميع مراحل عملية السلام، التي ترفع شعار السلام لـ(إسرائيل) على حساب العرب.
بل إن استجابة العرب لـ(إسرائيل) يقنعها بأن العرب قد استجابوا في الواقع للضغط الأمريكي، وليس حبًّا في (إسرائيل) أو بغضًا في ايران، فتكون النتيجة استمرار التشدد الإسرائيلي والمطالبة بالتطبيع مع كل العالم العربي، بيد أن الحقد الإسرائيلي على العرب والنظرة السلبية إليهم لن يزولا.
الخلاصة أنه في هذا الصراع بين المشروعين الإيراني والإسرائيلي يجب أن يدرك العرب أنه تكولب على الجسد العربي، فكيف يسلم العرب أنهم مأكولون، وأنهم أفضل لهم أن تأكلهم (إسرائيل) أفضل من أن تلتهمهم إيران؟!
وإذا كانت تلك هي نظرة الحكومات العربية، فإن شعوب المنطقة وعقلاءها يعطون الأولوية المطلقة للمصلحة العربية، التي تدعو إلى حقن الدماء ومنع الصدام الإيراني الإسرائيلي، والحوار مع إيران، واستمرار الضغط على (إسرائيل)، لأن الصراع المميت بين الطرفين خطر على العرب، كما أن التوافق بينهما سيكون على حساب العالم العربي.
التهام العرب ليس قدرًا مقدورًا كما يسلم المشروع الصهيوني والإيراني، وإن العرب يجب أن يكون لهم مشروعهم المناهض للمشروع الصهيوني والمواجه للمشروع الإيراني، وهذا هو الحل الإستراتيجي الوحيد، لقد عاد العرب إلى العصر الجاهلي يوم أن كانوا عبيدًا للفرس والروم، ولكن الإسلام انتشلهم من الضعة إلى السيادة وإخضاع الروم والفرس معًا لحكمهم.