لاقت التصريحات التي صدرت عقب انتهاء الجولة الأولى من الحوارات عن المجتمعين في القاهرة مساء الاثنين، بأن الأجواء التي سادت اللقاء كانت إيجابية، ارتياحًا عامًّا لدى الشعب الفلسطيني الذي ينظر لحوارات القاهرة كبارقة أمل طال انتظارها.
أمس هو الثلاثاء الذي كتبت فيه هذا المقال بروح الأمل الذي ساد كل الأوساط، ولذلك الكل ينظر لليوم الثاني من الحوار كيوم مصيري في حياة شعبنا، ويعلق على نتائجه الرغبة الوطنية الجامعة ببداية المسيرة الديمقراطية، والعودة لحالة الوحدة السياسية والقانونية والاقتصادية للشعب الفلسطيني، وأظن القيادات الفلسطينية المجتمعة في القاهرة تدرك ذلك تمامًا، وهي بالتأكيد تحمل هم ووجع شعبنا، وسيعمل الجميع على أن يلتقوا على قواسم مشتركة، فلا أحد قد ذهب للقاهرة بغية الحصول على كل ما يرغب، والكل يضع نصب عينيه أن الحوارات تعني الالتقاء في منتصف الطريق، صحيح أن هناك ثقة مفقودة، وكذلك هناك عقبات كبيرة وكثيرة، وتعقيدات بالغة، ولكن متى كانت طريق القادة ممهدة ودروبهم سالكة؟ فهذا هو قدر القادة، أن يمهدوا الطريق، ويصنعوا الأمل، ويفتحوا طريق المستقبل.
بعد خمسة عشر عامًا من الانقسام، وما واكبها من تراجع للقضية الفلسطينية دوليًا وعربيًا، وما رافق ذلك من تمزق وانحطاط داخلي على كل الصعد، سواء الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، ينتظر الشعب الفلسطيني قيادةً ملهمةً تصنع الأمل وتفتح طريق المستقبل المشرق للشعب الفلسطيني.
شعبنا بحاجة إلى قيادة تاريخية مؤسسة، تفجر طاقات المجتمع الفلسطيني الهائلة والكامنة منذ فترة طويلة، لتعيد للشعب الفلسطيني مكانته، وللشخصية الفلسطينية دورها المؤثر، وتنفض غبار التبيعة السياسية، وتنهى حالة استمراء الاستعطاف والاستجداء.
فلسطين بحاجة للقدر الفلسطيني الذي يرتقي بفلسطين وترتقي به، ليصبح تكوينًا من حاضرها وأملًا في مستقبلها وتراثًا بعد ذلك من تاريخها.
هذا هو الزمن الفلسطيني الذي ينتظر زعيمه، وقد حلت إرهاصاته وبدت بشائره تلوح في الأفق البعيد، فلكل أمة زعيم مؤسس، وفلسطين تنتظر منذ مئة عام زعيمها المؤسس الذي يبني الدولة ويفجر الطاقات ويطلق شعاع الأمل.
حوارات القاهرة مصيرية ولها ما بعدها، وستكون علامة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، والقيادات التي تتحاور مسؤوليتها تاريخية، لذلك فشلها محرم ونجاحها واجب، وشعبنا حكم عدل، وغضبه وعقابه شديدان، لا يحابي ولا يغفر، وإن كان يصبر ويعض على الجرح حينا، ولكن لا يغرين صبره أحد، ولا يستهينن بقدرته أحد، ولا يظننن أحد أنه قد ملكه أو ارتهنه، فغضبة الشعوب قاسية إذا سئمت، وبطشها مُروع إذا أُهينت، ولكن وفاءها عظيم إذا أُكرمت، وتضحياتها جسام إذا آمنت.
وشعبنا عظيم ووفي وكريم وواعٍ، وينتظر من قيادته أن تكون على قدر هذه المسؤولية، وهو الآن يراقب وينتظر فلا تخيبوا رجاءه.
إذا ما وصلت حوارات القاهرة إلى النتيجة المرجوة (وكلنا أمل أن تصل إن شاء الله) فستكون الخطوة التالية إنجاز الانتخابات التشريعية، التي يأمل شعبنا أن تفرز برلمانًا متبصرًا بالدور المناط به، وهو تحقيق الوحدة الوطنية، وقانون الانتخابات الذي ستجرى على أساسه الانتخابات التشريعية سيفرض تمثيلًا متعددًا، وسيؤدي إلى حكومة ائتلافية بالضرورة، لذلك ستكون نتائج الانتخابات بمنزلة مفرق طرق خطر، يجب ألا نتوقف عنده كثيرًا، وحذارِ أن يكون هذا البرلمان سببًا في مزيد من النزاع والشقاق، فلا يجب أن يفرق هذا البرلمان ما جمعه حوار القاهرة (ونحن حتى كتابة هذا المقال نأمل كثيرًا بالنجاح)، بل يجب أن يكون معززًا وضامنًا ومكملًا للمسيرة التي بدأت في القاهرة، وعلى الجميع أن يعتصم تحت قبة البرلمان بحبل الوحدة الوطنية المتين، ولا يتصرف أحد مهما كان تمثيله بمنطق (قد أفلح اليوم من استعلى) فالخيبة كل الخيبة بهذا المنطق، الذي لم يأتِ لشعبنا إلا بمزيد من الفرقة ومزيد من الإقصاء ومزيد من الاستفراد والهيمنة التي سئمها شعبنا، وكانت سببًا أصيلًا في الانقسام البغيض، الذي عانينا آثاره جميعًا طوال خمسة عشر عامًا عزيزة وغالية من الزمان، لو استثمرت في صالح شعبنا لكان حاله أفضل مما هو عليه الآن بكثير.
نجاح البرلمان المقبل سيمهد الطريق لنجاح انتخابات الرئاسة، ومن ثم المجلس الوطني، لتكتمل حلقة البناء الديمقراطي للمؤسسات الدستورية الفلسطينية واستقرارها، على نحو يضمن لكل الشرائح تمثيلًا عادلًا في تلك المؤسسات، فإذا ما تم ذلك سيكون شعبنا قد وضع قدمه على بر الأمان، وسيبدأ أولى خطواته نحو بناء دولته وتحقيق أماني وتطلعات أبنائه، بعد فترة من ضياع سفينته في بحر متلاطم وعواصف عاتية قدر الله أن ينجيه منها.