ليس محظورًا طرح التساؤل على كل من يهمه الأمر، ومنهم الكتّاب والدبلوماسيون: هل الرئيس الأمريكي الجديد أفضل من سابقه؟ وليس نافلًا عرض هذا السؤال المشفوع بالتوجّس للنقاش العام، خصوصًا بين الفلسطينيين، في أعقاب سقوط إدارة ترامب التي كانت بمنزلة غمامة سوداء لبّدت سماء المنطقة، وقد لا يوجد مفرّ من التعاطي مع هذا المتغير الكبير، من جانب كل من لهم خصومة أو عداوة مع سياسات الدولة العظمى أو خشية منها، وهي التي لا تكف عن التدخل الخشن في شؤون غيرها.
ولا أحسب أن هناك على وجه الأرض من يثير السجال في "جودة" الرئيس الأمريكي المنتخب، ويتحسّب إزاء سياساته المحتملة، أكثر من قادة الطبقة السياسية الإسرائيلية، نظرًا إلى وزن واشنطن الراجح، وتأثيرها البالغ في مختلف شؤون الشرق الأوسط وشجونه، ومن ذلك شأن الدولة العبرية، إذ من الملاحظ أن هذا السجال قد أخذ يحتدم، أكثر من ذي قبل، منذ وصول الرئيس باراك أوباما إلى الحكم، كما استمر الأمر على هذا النحو أو ذاك مع الرؤساء اللاحقين له.
هذا النقاش الداخلي لدى المجتمع السياسي الفلسطيني كان حاضرًا أيضًا، ومفعمًا بالخلافات، في خضم كل تبدل رئاسي أمريكي، وإن بدرجة أقل صخبًا، لكن الاشتباك بين وجهات نظر المعلقين في الصحافة ومنابر التواصل الاجتماعي، داخل الأرض المحتلة وخارجها، بدا أكثر انفعالًا هذه المرّة، وأشد عبثًا من ذي قبل، بين من يرى أن انقلاع دونالد ترامب، بكل شروره ومساوئه التي تعد ولا تحصى، أمر مهم في حد ذاته، ويدعو إلى التفاؤل الحذر والمحسوب بدقة، ومن يعتقد أن الخلّ أخو الخردل، وكلهم من طينة واحدة.
هذا الخلاف النظري بين النخب الفلسطينية قد لا يقدّم ولا يؤخر كثيرًا في المحصلة النهائية، وقد يستمر، بلا طائل، إلى نهاية ولاية الرئيس الأمريكي الجديد، وذلك إن لم يُتَوافق سلفًا على معايير قابلة للقياس، لترشيد الحوار وعقلنة المقاربات، بعيدًا عن الأفكار النمطية السائدة، ثم طرح الأسئلة الصحيحة، مثل: هل شهدنا ذات يوم إدارة أمريكية أسوأ من إدارة ترامب؟ وإلامَ كان سيؤول الحال لو طال المطال بنا أربع سنوات أخرى عجاف؟ هل كان هناك زمن فلسطيني أشد سوادًا من عهد صاحب صفقة القرن، أو قل متعهد تصفية القضية؟ ومن يدري كم كان سيبلغ مدى الانهيار، لو طال معنا كابوس دونالد ترامب أكثر؟!
وفوق ذلك، هل أصبحت (إسرائيل) اليوم أقصر باعًا في التوسع والضم والاستيطان مما كانت عليه بالأمس القريب؟ ومن الجانب الذي بات اليوم تحت ضغط أشد من الآخر: هل الشعب الفلسطيني الذي هلّل لسقوط ترامب، أم المستوطنون الذين أقاموا الصلوات من أجل فوز المعربد في واشنطن، ثم راحوا يلطمون على ضياع فرصة ذهبية فاقت الخيال، لشرعنة حقائق الأمر الواقع على الأرض؟ وإذا لم يربح الجانب الفلسطيني شيئًا بقدوم بايدن، فهل خسرت (إسرائيل)، بالمقابل، شيئًا ذا بال؟ وهل يجوز لنا، وقد تنفس العالم الصعداء بانقضاء زمن ترامب، ترداد مقولة إنه لا فرق بين الاثنين، وإنهما وجهان لعملة واحدة؟
ليست الغاية من هذه المطالعة تثمين نجاح جو بايدن من دون تحوّط، ولا عقد الرهان المجاني على طاقم إدارة جديد، عليه ما عليه من مآخذ وتحفظات، فالبحر هو البحر دائمًا، وأمريكا هي أمريكا في مطلق الحالات، غير أنه لا يصح خلط الحابل بالنابل على طول الخط المستقيم، وتجاهل الفرق بين الألوان، مهما كان الفرق ضئيلًا، ولعل الأهم من ذلك كله الكفّ عن العدمية السياسية، بالاستثمار في الهوامش ما أمكن، ثمّ البناء على المتغيرات، وتحقيق المكتسبات المتفرقة، ومراكمة الأوراق القليلة، وتوسيع الهوامش المتاحة، وفتح الآفاق المغلقة، وهي كلها عصافير على الشجرة حتى الآن.
وعليه، إن لم يكن التساؤل غير مناسب، عن هل جو بايدن جيد للفلسطينيين؟ وفيه اقتباس حرفي من السؤال الإسرائيلي الدائم ذاته؛ فإن الجواب بسيط جدًّا، وهو: إذا لم يكن دخول بايدن إلى خشبة المسرح أمرًا لا يدعو إلى فرك الأكفّ فرحًا، وليس فيه بعض العزاء للنفوس الملتاعة؛ فإن خروج ترامب من المشهد مدحورًا مذمومًا يدعو في حد ذاته إلى البهجة، ويحمل على قدرٍ من التفاؤل، وربما يفتح كوّة في الجدار، ويرفع من سقف التوقعات، بعد أن وصلنا إلى حافة الهاوية، وكادت السماء تنطبق على الأرض دفعة واحدة.