ليس في المسجد الأقصى، كما هو معلوم، بطارية مدفعية ثقيلة، ولا تُعسكر في صحنِه وحدة عسكرية مدجّجة بالصواريخ الدقيقة، بل ولا يحمل المرابطون فيه مسدّسات أو قنابل يدوية، إلا أن رقعة الأرض هذه القريبة من باب السماء مسكونةٌ بقوة ناعمة يُبصرها القلب ولا تراها العين المجرّدة، تتزاوج فيها القداسة الدينية مع المكانة التاريخية والرمزية الوطنية، وتكمن تحت بلاطه، فوق قبابِه، وفي جوف حجارته العتيقة، نار لا تنطفئ لها شعلة، فيما جمراتها الهاجعة تحت الرماد تتّقد عند أول تكبيرة صلاة أو نداء استغاثة صبيةٍ مقدسية، وفق ما تدلّ عليه سجلات بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وفوق ذلك ما يشير إليه تواتر الوقائع الجارية ملء الأسماع والأبصار.
على هذه الخلفية، صار الأقصى رافعة كفاحية ذات طاقةٍ لا تنفد، انتظمت بنيتها عتلةً عتلةً على مدار زمن طويل، بدأ من صدر الإسلام، مروراً بصلاح الدين حتى يومنا، الأمر الذي صنع من مساحة هذا المسجد، وهي كيلومتر مربّع فقط، أرض حشد ورباط، وعنوان جهادٍ مديدٍ ومقاومةٍ لم تنقطع، لدى حرسها القوي الأمين مفتاح الحرب ومفتاح السلام، ومن أجلها تُشدّ الرحال، ويُنادي المنادي بالنفير العام، مرّ عليها الغزاة، وذهبوا مجلّلين بالعار والشنار، وبقيت بفضل الأقصى لقمة لم يستطع الاحتلال الصهيوني ازدرادها، ولا أسرلتها أو تهويدها، على نحو ما جرى لشقيقتها يافا.
قبل عام وأزيد، تساءلت هذه الزاوية تساؤل العارف، لماذا وحدَها القدس تربح كل مواجهة، تفوز في كل جولة، مع الاحتلال المدجّج بالحديد والحقد والنار، رغم أن المصلّين في الأقصى لا يُطلقون الرصاص؟ ولماذا يحظى أهلها في البلدة القديمة أو حي الشيخ جرّاح أو سلوان أو باب العامود بكل هذا الإسناد الفلسطيني في الداخل وداخل الداخل وفي ديار الشتات؟ وهل من غير القبلة الأولى، عاصمة العواصم، زهرة المدائن، مدينة تستحقّ مثل هذه الاستجابات؟ وهل هناك حاضرة مماثلة لديها كل هذا السر الباتع، وهذا السحر الفاتن، القادر على إشفاء القلوب الملتاعة من سقمها، ورصّ الصفوف المتفرّقة على اختلافاتها، وذلك عند أول هتافٍ يطلقه مقدسيٌّ من داخل الأقصى "الله أكبر" ليتردّد صداه على طول المدى، من حيفا شمالاً إلى رفح في أقصى الجنوب.
وبنظرة سريعة إلى الوراء، ومراجعة الوقائع القدسية خلال السنوات القليلة الماضية، نجد أنه كلما حاولت قوات الاحتلال اللعب بنيران المسجد الأقصى، أو سعت إلى فرض أمر واقع جديد من خلال القوة المفرطة، كلما حدث متغيران مهمان، أولهما أن الاحتلال كان في كل مرّة يخسر المواجهة من أول جولة على الحلبة المُضاءة بالأنوار الكاشفة، ويرتدّ عنها مدحوراً مذموماً، حيث يخسر الصورة، وهي خسارةُ بالغة الأهمية، وينزل عن خشبة الملاكمة مرضوضاً، سياسياً وأخلاقياً، ليعاود المحاولة الآثمة كرّة أخرى، ويفشل من جديد في تحقيق أيٍّ من أهدافه المعلنة، سواء إزاء الأقصى أو حيال المدينة العصية، بأهلها وحجارتها، على الانكسار.
ثانيهما، أن نفخ المحتلين في الكير على جمرات الأقصى لا يؤدّي إلا إلى توهّجها بصورة تلقائية، ويزيد من لهيب شعلتها المقدّسة أضعافاً مضاعفة، أي أنه يجدّد روح الكفاح الفلسطينية، يستنهض الحالة الوطنية من بياتها على الفور، ويعيد القضية إلى صدر جدول الاهتمامات العربية والدولية، ويمنحها قوة دفع ذاتي متجدّدة، تتيح لها جلاء صورة الوحدة في الداخل والخارج، التسامي فوق الانقسامات الفصائلية، والأخذ بزمام المبادرة الدبلوماسية والحقوقية، ومعاودة الهجوم من جانب فتية الضفة والقطاع وعرب 48، ناهيك عن القدس ذاتها، في مشهدٍ جامع.
ولعلّ ما جرى في المسجد في الأيام القليلة الماضية، وهي معركة لم تنته فصولها بعد، وما تخلّلها من عبث مفرط ووحشية قارفتها قوات الاحتلال ضد نساءٍ متضرّعاتٍ وشيوخ مصلين، وما أفضت إليه المشاهد المبثوثة من ردود فعلٍ مواتية، يعزّز استنتاج إن كل مواجهة في الأقصى تمثل ربحاً صافياً للفلسطينيين، ومكسباً مضافاً لرمزية القدس ومركزية بيتها العتيق، تقابلها خسارةٌ محقّقة لدولة الاحتلال الذي يزداد تطرّفاً وفاشية، الأمر الذي يجوز معه القول إن جريرة هذا العبث بنيران المسجد الأقصى، بكل هذه الرعونة الناجمة عن سكرة القوة المجرّدة، أمرٌ مفيدٌ لشعب فلسطين على المديين، المتوسّط والطويل، بعد أن يُحدِث أثر التراكم التحوّل المرغوب فيه.