خسرت القضية الفلسطينية كثيرًا في عهد ترامب، وصحيح أنها كسبت كثيرًا بخروجه من المشهد، لكن ما خسرته يصعب تعويضه، ما لم يتحرّك الفلسطينيون بسرعة وجدّية لإحياء مشروعهم الوطني، والتعامل مع العالم على أساسه، ليس لدى إدارة بايدن ما تضيفه على إدارة أوباما، بل على العكس هي أسوأ منها فيما خصّ التطبيع، فقد كانت إدارة أوباما منسجمةً مع مبادرة السلام العربية التي تربط مكافأة (إسرائيل) بالتطبيع بالتنازلات التي تقدّمها في ملف السلام، ما نجح ترامب في فرضه أمرًا واقعًا هو فك الارتباط بين مساري التطبيع والسلام، بحيث تقدّم كل مغريات التطبيع إسلاميًّا وعربيًّا للعدو، من أجل تشجيعه على الدخول في عملية السلام، وهي بدقة مجرّد عملية ركض موضعي (تريد ميل) لتخفيف الوزن، من دون التقدّم مترًا واحدًا على الأرض.
نجا العرب من التطبيع الإجباري الذي كان يسير فيه ترامب، وهم اليوم أمام التطبيع الاختياري بناء على المغريات، لذلك لا تُستغرب حفاوة صحيفة إندبندنت العربية المموّلة من السعودية بمقابلة الوزير السوداني الأسبق، مبارك المهدي، الذي يقول: "إن (إسرائيل) صديق وإيران عدو"، وهو ما يخالف معتقدات حزب الأمة وتاريخه، وصولًا إلى آخر زعمائه الراحلين، الصادق المهدي الذي مسك ختام حياته الموقف المبدئي من التطبيع، ولا يتوقف التشجيع عند السودان، وإنما يمتد إلى إندونيسيا وغيرها.
أمريكا تشجع سياسيًّا، والإمارات تموّل اقتصاديًّا، لكن ذلك كله لا قيمة كبرى له مع سلامة الموقف الشعبي المعادي للصهيونية، يبقى المهم موقف القيادة الفلسطينية التي صمدت في عهد ترامب، وأخذت موقفًا حاسمًا من خطوة الإمارات التحالفية مع (إسرائيل).
تستطيع القيادة الفلسطينية إحياء المشروع الوطني الفلسطيني، والوقوف سدًّا منيعًا في وجه محاولات دفن قضية فلسطين، وقد بدأت خطوات جدّية في ذلك مقاومة للضغوط الأمريكية والإسرائيلية و"العربية"، ولقيت كل الدعم من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، تجلى ذلك في سلسلة اللقاءات التي نتجت عنها مراسيم رئاسية تنظم العملية الانتخابية، فـ"حماس" قالتها في الاجتماعات، بصراحة، إنها لا تريد الحصول على الأكثرية، وهذا ما تظهره استطلاعات الرأي، وهي تريد "المشاركة لا المغالبة"، فالمشروع الوطني يتطلب توحيد القوى السياسية كافة وراءه، وهو المشروع القائم على ثوابت القدس واللاجئين والدولة، وبهذا يكون تجاوز مرحلة ترامب والاستفادة من مرحلة بايدن باعتبارها مرحلة ترك الفلسطينيين وشأنهم، من دون ممارسة الضغوط وترويعهم.
قدمت "حماس" كل ما تستطيع من تنازلات، حتى شرط تزامن الانتخابات تخلت عنه، بحيث صارت وفق المراسيم تجرى بالتتابع، وهي لا تريد منافسة أبي مازن مع استطلاعات الرأي التي تشير إلى تقدّم إسماعيل هنية عليه، إذ حصل فيها على نسبة 50%، مقابل 43% لعباس، الذي طالب، في الاستطلاع الذي أجراه مركز البحوث الفلسطيني في رام الله، 66% من العينة باستقالته في شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي.
وقد أثار موقف "حماس" الذي سبقته لقاءات في إسطنبول والدوحة هلع (تل أبيب) وعواصم إقليمية، فتحركت بهدف "هندسة الانتخابات لضمان نتائج تحجّم حركة حماس، وتدرجها في مسار علمية السلام"، وفي سبيل ذلك أجرت القيادة الفلسطينية تغييرات في الجهاز القضائي، أثارت ريبةً في نزاهة الانتخابات، إضافة إلى هندسة العملية الانتخابية لضمان عدم وقوع مفاجآتٍ، فبدأت تحرّكات لتوحيد حركة فتح، منها محاولة إقناع الإسرائيليين بالإفراج عن القيادي الأسير مروان البرغوثي، وحل مشكلة القيادي المفصول محمد دحلان.
يمكن أن تكون الانتخابات فرصة لإحياء المشروع الوطني الفلسطيني، وهو أكبر من من "فتح" و"حماس"، ثمة جيل كامل فلسطيني ولد بعد اتفاقات أوسلو، وهم يشكلون أكثر من 50% من الفلسطينيين، ولا يقل هذا الجيل التزامًا بالقضية عن آبائه وأجداده، ولكنه غير ممثّل بالأطر القيادية التي صار يغلب عليها جيل فوق الستين.
والأهم من ذلك أن يستوعب المجلس الوطني الفلسطيني الشتات الذي يمثل أكثرية الشعب، ويجسّد جوهر القضية الفلسطينية، تتيح الانتخابات ذلك كله، تمامًا كما تتيح فرصة لدفن المشروع الوطني الفلسطيني، بهندسة انتخابات مزورة، تشرعن خطوات التنازل حتى عن ثوابت "أوسلو"، على الفلسطينيين التحلّي بالتواضع، فما يجري هي انتخابات داخل سجن كبير، في غزة والضفة، ومن ينتخبون هم مساجين يتعاملون مع سجّان، واجبهم ليس تحسين شروط السجن، ولكن تحرير السجناء.