المشروع الصهيونى أوسع من فكرة الصهيونية، وهو يهدف إلى تجنيد كل الأدوات، بما فيها التظاهر باحترام القانون أو نبذه إذا كان ذلك لصالح المشروع، وهو يهدف أساسا ليس فقط إلى تحقيق الفكرة الصهيونية في فلسطين وإنما إلى تقديم الضمانات اللازمة لحماية هذه الفكرة عندما تتجسد فى صورة "إسرائيل" وأهم مهدداتها هي مصر، ولذلك مهما قدم النظام فى مصر من تطمينات وترضيات لـ"إسرائيل" فلن تقنع "إسرائيل" إلا بإبادة مصر وليس فقط إخضاعها.
وقد استخدم المشروع الصهيوني العديد من الأدوات نرصد منها عَشرًا أساسية؛ الأولى هي القوة العسكرية الساحقة والحصول على السلاح وتصنيعه وعدم التوقف عند مستوى معين فيه، ولذلك فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي هو نموذج الجيش المحترف وكفاءته عالية بالمقارنة بالجيوش العربية لأنه يستعين بخبرات متنوعة وشبكة تعاون هائلة على المستوى العسكري مع الدول المتقدمة التي تقدم له هذه الخدمة على سبيل العون والمساعدة وليس عبئا على الاقتصاد الإسرائيلي كما هي الحال في مصر. فجيش الاحتلال الإسرائيلي هو أساس طمأنة الإسرائيلي والثبات في هذه المنطقة ولذلك فإن هز قوة الجيش كما حدث فى الأيام الأولى فى حرب أكتوبر 1973 وكما يحدث فى المواجهات مع حزب الله فإن ذلك يؤدي إلى تفكك "إسرائيل" وهجرة اليهود إلى البلاد التي جاؤوا منها، ولذلك فهم يدركون أن قوتهم الساحقة هى أساس تثبيت الدولة وأساس خضوع المنطقة العربية لهم، كما أنه أساس لاحترام العالم لهم باعتبار "إسرائيل" دولة عسكرية ولكنها ديمقراطية على خلاف عميق في التفاصيل مع البيئة العربية.
فالقوة العسكرية وسحق العرب بها هي أساس نظرية نتنياهو التي تخضع العرب وتضمن تسيد "إسرائيل" ويتمنى العرب الصداقة معها بأرواحهم وأموالهم دون أن يطالبوها برد ما أغتصبته من أرض عربية أو الكف عن الجرائم لأن هذه الجرائم هي نتيجة لاستخدام القوة لسحق العرب وهي مسألة أساسية في الفكر الصهيوني.
ولذلك فإن التعويل على المبادرة العربية للسلام كما تفعل السعودية الآن هو مجرد مبرر سطحي لتأجيل الاعتراف بـ"إسرائيل" لأن هذه المبادرة التي قدمت منذ عقدين من الزمان لم تعد تصلح مع دخول المنطقة القرن الإسرائيلي.
الأداة الثانية هي اختراق العالم العربي عن طريق الحكام ومحاولة ذلك مع الشعوب وهذه الطريقة هي التي ضمنت لـ"إسرائيل" البقاء لأن فساد النظم العربية وقمع هذه النظم لشعوبها هو ضمان لأمن "إسرائيل" وتأمين وجودها المتميز.
أما الاداة الثالثة فهى الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة فى الدعم من جميع الوجوه السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها فواشنطن هي التي تمكن لـ"إسرائيل" فى المنطقة على أساس هيمنة واشنطن الكاملة على الحكام العرب خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة . والملاحظ أن روسيا والصين لم يعد لديهما الغيرة من هيمنة واشنطن على المنطقة العربية كما كان يحدث فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إبان الحرب العالمية الباردة.
الأداة الرابعة هى شعور "إسرائيل" بأنها سوف تستولي على كل فلسطين وأنه من الضروري توفير كل مقومات الحياة لكل اليهود في العالم الذين سوف يفدون إليها وسط بيئة شعبية معادية وبيئة رسمية موالية ولذلك أظن أن هذه هي الإشكالية الكبرى التي تمنع استكمال المشروع الصهيونى ولهذا السبب لا يخفي سفراء "إسرائيل" فى مصر أن مهمتهم هى تطويع الشعب المصرى لـ"إسرائيل" ورفع العداء من قلب المصريين لـ"إسرائيل".
الأداة الخامسة تمزيق المنطقة العربية بالمؤامرات وتضييع هوية المنطقة العربية والإسلامية حتى تتهيأ لاستقبال الهوية الجديدة الصهيونية.
الأداة السادسة التربص بأي محاولة لوعي الشعوب العربية والديمقراطية ولذلك قادت المؤامرة على كل الثورات العربية وتجاهر "إسرائيل" بأن أمنها وسلامها مرتهنان بإستمرار الفساد والاستبداد العربي وقهر الشعوب ونهب خيرات البلاد وأن يكون المنصب أهم من الوطن وتغيير العقيدة السياسية والعسكرية للحكومة والأمن والقوات المسلحة بحيث لا تصبح "إسرائيل" هي العدو وإنما هي الشريك والحليف.
الأداة السابعة استخدام الإعلام فى الدول العربية والعالم لإرهاب المثقفين والكتاب الذين يهاجمون المشروع الصهيونى والسياسات العدوانية الإسرائيلية كما تتمتع "إسرائيل" بمكانه عالمية تساعدها على الاطاحة بأى منصب حتى لو كان الكونجرس الأمريكى. وقد درجت بعض وسائل الإعلام العربية كالجزيرة على استضافة بعض المتحدثين الصهاينة وهذا اختراق للجماهير العربية الجاهلة والمشتتة بسبب سياسات الحكومات العربية ولذلك من الخطر أن يطل هؤلاء علينا وحدهم عبر الشاشات العربية وإنما لا بد أما التعقيب عليهم وإما أن يكون هناك ضيف عربي يوازي ذلك وحجة قناة الجزيرة هي حرية الإعلام وأن "إسرائيل" ترحب بأي صوت عربي في إعلامها علما بأن هذا وذاك يعدان ممهدين للتطبيع مع "إسرائيل" ومهدرين للصورة البشعة التى كونها المواطن العربي تجاه كل ما هو إسرائيلي.
الأداة الثامنة هي دفع العرب إلى الافتتان الشعبي بالنموذج الإسرائيلى ويساعد في ذلك الكتاب والمتحدثون العرب الذين يمتدحون "إسرائيل" وديمقراطيتها وتقدمها العلمى مقارنة بالتخلف والدكتاتورية فى بلادهم ويتجاهلون أن "إسرائيل" هي التي تسببت فى التخلف والاستبداد العربي وهي التي تحرس الوضع الراهن فى المنطقة العربية.
الأداة التاسعة ضرب الإسلام بالمسلمين وقد رأينا فى صورة داعش التي صنعتها الولايات المتحدة ودربتها "إسرائيل" ومولها الخليج لكي تسيء إلى الإسلام والمسلمين وتخرج صورة نمطية للمسلم فى أصوله الأولى خاصة مع حرص الحكام العرب على تغييب عقول الشعوب وفرض الأكاذيب عليهم على أنها حقائق.
الأداة العاشرة والأخيرة هي سلاح الاغتيالات وسجل "إسرائيل" فى ذلك مشهود والغريب أن العالم سكت عن جرائم "إسرائيل" فى هذا الباب وكأنه حق مشروع لها أن تتخلص من الشخصيات العلمية والسياسية العربية غدرا وغيلة .
خصائص المشروع الصهيوني:
1- أنه مشروع مكتمل نظريا بأدواته وأهدافه ومشكلات تطبيقه، ولكن تطبيقه على الأرض ومحطاته تتحدد حسب الظروف، فكلما تراجعت المنطقة العربية وثب المشروع الصهيونى في الفراغات ونقاط الضعف التي تصيب العرب . فعلى مستوى العلاقات الخارجية مثلا كان العرب يحرصون على عزلة "إسرائيل" في العالم ويقطعون علاقاتهم مع من يعترف بها ولكن مصر هي التي بددت هذا الكسب بصفقة كامب دايفيد التي أفادت السادات شخصيا ولكنها أضرت بمصر والعرب ضررا بليغا .
2- أن المشروع سخر كل شيء لتقدمه بما في ذلك الإمعان في الديمقراطية والنزاهة أخذا بالحديث الشريف أن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة ويهزم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.
3- انعدمت لدى المشروع كل القيم الدينية والأخلاقية واستُبيح كل شيء في سبيل ازدهار المشروع.
4- أن المشروع كان يبطن غير ما يظهر وقد تظاهرت "إسرائيل" بأنها تريد مكانا فى فلسطين لليهود المضطهدين وحصلت على قرار التقسيم وتظاهرت أن السلام ممكن بين اليهود والعرب فى فلسطين وظهرت نظرية حل الدولتين وتظاهرت بأنها قبلت قرار التقسيم وهي التي رفضت تطبيقه أصلا ولكنها في الوقت نفسه كانت تلوم العرب على عدم قبول هذا القرار حتى إذا ما قبلوه فاجأتهم بأنها لم تعترف به يوما.
5- أن "إسرائيل" لا تهتم بالوثائق القانونية وإنما تستخدمها لخدمة المشروع فتؤمن بأن السبب الأساسي في تقدم المشروع هو القوة والبطش واستئناس الحكام العرب.
6- التحلي بالصبر الاستراتيجي والاهتمام بأي تقدم بمعيار "إسرائيل" فكان انهيار مصر عام 1967 قد فتح الباب أمام تقدم مشروعها في مصر والمنطقة العربية كلها.
7- المشروع الصهيونى يعاني أزمة الشرعية والاعتراف والأخلاق ولذلك تكثر فى الأدبيات الإسرائيلية هذه المصطلحات فتصر "إسرائيل" على تكرار الاعتراف بها لعل ذلك يطمئنها إلى أن هذا الاعتراف قد أضفى عليها شرعية ليست فيها كما أن زعماء "إسرائيل" يرددون بكثرة أن الجيش الإسرائيلي يتمتع بأخلاقيات عالية وهو في الواقع أهم ما تفتقده "إسرائيل" وجيشها.
8- أن المشروع يعتمد على هدفه الأساسي، وهو الاستيلاء على كل فلسطين، ولكنه ليس واثقًا من المستقبل ويتحرك على أرض زلزالية، ولذلك وقعت "إسرائيل" فى أزمة التناقض بين محاولاتها دعم الثقة بنفسها وشعورها العميق بعدم الأمان ولذلك تركت حدودها للظروف وصرحت بأن أمن "إسرائيل" يقف عند النقطة التي تشعر فيها بالأمان، ولن تشعر بالأمان مطلقا لأن طبيعة اليهودى أنه يعلم أنه لا ينتمي لليهودية وأنه أول من خرج على التوراة وأن القرآن الكريم فضح اليهود وتلاعبهم بالتوراة وكيدهم للعرب والمسلمين.
9- محاولة إضفاء الشرعية الدينية بقانون ما يسمى الدولة اليهودية استنادا إلى أن قرار التقسيم قد استخدم هذا المصطلح ولكنها في الحقيقة دولة اليهود وليست الدولة اليهودية وعلى الرغم من أن رجال الدين اليهود لا يزالون يحرفون التوراة فإنهم في "إسرائيل" وفي غيرها مجندون لخدمة المشروع.
تلك هي أدوات المشروع الصهيوني وخصائصه التي تستحق من العرب الدراسة الأمينة والمراجعة، لأن القضية تتعلق بالوجود العربي، ولذلك انشغل المثقفون العرب بما أرادته "إسرائيل" أن ينشغلوا به وهو هل الصراع العربي الإسرائيلي صراع وجود أم صراع حدود؟ وهذه صيغة بلهاء لأن الصراع كان وهما وقد أثبتنا ذلك في مقالة أخرى أن الصراع من الخرافات والأساطير في الثقافة العربية. فالمشروع الصهيوني خطط أساسا لكي ينهي الهوية العربية والإسلامية للمنطقة ويحل محلها الهوية الصهيونية.