صدر القانون الأساسي الفلسطيني في عام 2002م، ليحدد شكل نظام الحكم في السلطة الوطنية الفلسطينية، التي تشكلت عقب اتفاق أوسلو الذي وُقّع في عام 1993، وبموجبه تكونت السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 1994م، وبقيت هذه السلطة تحكم بالإرادة المنفردة للرئيس أبو عمار رحمه الله، الذي كان يمارس سلطة التشريع إضافة إلى سلطة التنفيذ، في حين عملت السلطة القضائية بموجب القوانين التي كانت سارية إبان فترة حكم الإدارة العربية المصرية لقطاع غزة.
كان القانون الأساسي قبل التعديل الأول في عام 2003م يكرس النظام الرئاسي لسلطة حكم ذاتي محدود الصلاحيات، وكانت السلطة التنفيذية كلها مجموعة بيد رئيس السلطة، فهو الذي يعين الوزراء، وهو الذي يقيلهم، ويقبل استقالتهم، وهو كذلك من يعرض التشكيل الحكومي على المجلس التشريعي لنيل الثقة، وهو الذي يرأس مجلس الوزراء، وكانت جميع القرارات التنفيذية توقع باسمه بوصفه رئيسًا للسلطة الوطنية الفلسطينية.
في عام 2003 وبعد ضغط دولي كبير، وفي محاولة لإزاحة الرئيس عرفات عن المشهد بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد، عدل المجلس التشريعي القانون الأساسي –يعدل بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس- واستحدث منصب رئيس وزراء، وأنيط به مهمة تشكيل ورئاسة مجلس الوزراء، وأصبحت السلطة التنفيذية لدينا ثنائية الرأس، والصلاحيات موزعة بين الرئيس ومجلس الوزراء، طبعا لم يستسلم الرئيس عرفات لمحاولة الانقلاب هذه على صلاحياته، وكان يتصور أنه بالموافقة على التعديل يمكن أن يحني رأسه للعاصفة، لكنه لا يستسلم، وسيعين رئيس وزراء يكون مجرد تابع ليس له من السلطة شيء، وعلى هذا الأساس عُيِّن محمود عباس رئيسًا للوزراء، وهو المعروف بسمته الهادئ غير المشاكس، الذي ينفذ التعليمات دون مناقشة، علاوة على أنه عراب مشروع السلام منذ البداية، ولم يكن له تاريخ مشهود في الكفاح المسلح، هذه الصفات هي ما جعلته أفضل الخيارات أمام أبي عمار رحمه الله ليعينه في منصب رئيس الوزراء.
إلا أن رياح أبي مازن جاءت بما لا تشتهي أبدا سفينة عرفات، وأظهر أبو مازن وجهًا غير مألوف لأبي عمار لم يعهده فيه قط، ورفض أن يكون مجرد تابع ليس له من الأمر شيء، وتشبث بصلاحياته التي أعطاها له القانون الأساسي المستحدث، الأمر الذي لم يستسغه عرفات، وهو المعروف بشخصيته الطاغية غير القابلة للمشاركة أو التقاسم في القرار، كل ذلك أدى إلى حدوث خلاف كبير انتهى بوصف عرفات أبي مازن بأنه كرزاي فلسطين (نسبة الي حامد كرزاي رئيس أفغانستان عقب الغزو الأمريكي) ومن ثم اضطرار أبو مازن إلى تقديم استقالته، التي قبلت من عرفات بلا أدنى تردد في سبتمبر 2003م، ولم يكن قد مضى على تولي محمود عباس للمنصب إلا ستة أشهر فقط، ليُعين أحمد قريع خلفًا له، وقد فهم قريع الدرس فساير الرئيس عرفات، وكان له طوع يمينه، إلا من بعض الهنات التي قد تحدث في أي عمل مشترك، لكنها لم تكن تؤثر في انسجام العلاقة بين الرجلين.
شاءت الأقدار أن ينتهي أجل الرئيس عرفات في نوفمبر من عام 2004م، ليتولى أبو مازن رئاسة اللجنة التنفيذية في العام نفسه خلفاً لعرفات، ومن ثم رئاسة السلطة في عام 2005، ليجمع في يده رئاسة السلطة، ورئاسة المنظمة، ورئاسة حركة فتح.
أبقى أبو مازن على أحمد قريع رئيسًا للوزراء، ولكن أحمد قريع لم يكن طوعًا ليمينه كما كان لعرفات، فما يعطى لعرفات لا يعطى لسواه، فكيف إذا كان قريع قرينًا أو نظيرًا لأبي مازن؟ فطالب قريع بصلاحياته كاملة، تلك التي كان قد طالب بها محمود عباس لنفسه عندما كان رئيسا للوزراء، ولسان حاله يقول: قد كفيتنا القول يا أبا مازن، ولم يدرِ أن أبا مازن ذاك لم يعد هو ذاته أبو مازن الرئيس، فرفض أبو مازن طبعا، وتمسك بالصلاحيات التي تمسك بها سلفه أبو عمار، وبقيت الأمور بين أخذ ورد، حتى انقلبت الأمور رأسا على عقب بفوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، وتشكيل الحكومة العاشرة برئاسة إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الأمر الذي أدى إلى طفو الخلافات الكامنة بين رئاسة السلطة ورئاسة الحكومة على السطح، وما كانت تستره وحدة التنظيم فضحه اختلاف الأيديولوجيا، ولم يعد هناك مجال للمداراة، فاشتعلت الخلافات بين الرئاسة والحكومة حتى وصلت إلى حد الانقسام، ثم أصبحت الحكومات التي شُكلت بعد ذلك دون ثقة ورقابة البرلمان، مجرد أدوات تنفذ البرنامج السياسي والإداري للرئيس، وكان وصفها المحبب لأبي مازن هو (حكومة الرئيس) .
ما سبق كان سردية محزنة للتساوق مع ضغط خارجي ظن البعض أنه مجرد انحناء للعاصفة، ولكنه كان بمكانة فتح باب البيت للغريب الذي دخل فيه فأفسده، وما زال الشعب الفلسطيني يعاني مرارة هذا التنازع حتى يومنا هذا.
اليوم الشعب الفلسطيني مقبل على انتخابات على أساس النظام النسبي الكامل، الأمر الذي يؤسس لبرلمان فسيفسائي التشكيل، وعليه فإن الحكومة التي ستنتج عنه بالضرورة هي حكومة ائتلاف وطني، ولا مجال لأن تكون حكومة تابعة للرئيس، لأن طبيعة الائتلافات الحكومية مشروطة بتوافق أحزاب مختلفة في الفكر والبرامج على برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي معين، قد ينسجم في بعضه ويختلف في البعض الآخر مع برنامج الرئيس، الأمر الذي لا يسوغ للرئيس الادعاء كما تعودنا أن الحكومة هي حكومة الرئيس، وتلتزم تنفيذ تعليماته، وإلا فلا داعي لكل التوافقات الحزبية على تشكيلها، وهذا أمر يدعو عاجلًا إلى اتخاذ ما يلزم لفك التداخل بين صلاحيات الرئيس وصلاحيات الحكومة، بما يضمن الاستقرار السياسي، وإنهاء الخلاف القائم منذ عام 2003م بعد التعديل الأول للقانون الأساسي، وذلك حتى تسير سفينة التوافق بسلام، وهذه المسألة تستوجب من المجلس التشريعي القادم، ضرورة وضع هذه القضية (كنقطة من نقاط عديدة يحتاج القانون الأساسي إلى التعديل فيها لا يتسع المقام للتعرض لها) على بساط البحث كأولوية وطنية لتعديل القانون الأساسي، بما يضمن مراعاة التطور السياسي، وبما يؤسس لمرحلة الدولة دستوريًّا، ويكرس وجودها عمليًّا، فلم يعد القانون الأساسي بشكله الحالي، ولا بالظروف التي واكبت صياغته مناسبًا لحكم المرحلة المقبلة.