لأن سجن نفحة الصحراوي معزول عن المدن الإسرائيلية (يقع جنوب غرب مدينة بئر السبع المحتلة سنة 48) في منطقة صخرية قاحلة، غير ذي زرع، سجن يتربع على قمة جبال نفحة التي ترتفع عن الأرض مسافة 800 متر تقريبًا؛ لذلك كان عزل الأسرى عن البشر أول أهداف السجن، الذي شيد بحجارة الأحقاد، وتحصن بالقهر والبعد، فكان السجن الصهيوني الأول الذي خصص للأسرى الفلسطينيين ذوي الأحكام العالية.
وما برح اسم سجن نفحة يوقظ الرهبة في النفس، فالسجن بموقعة الجغرافي يعني المشقة والعناء للأهل في زياراتهم نصف الشهرية، ويعني انقطاع الأخبار العاجلة والسريعة عن أحوال الوطن، التي كانت تصل السجناء من طريق الأسرى الجدد، وهذا غير متوافر في سجن نفحة، فالأسرى لا يتغيرون، الأسماء نفسها، والأحكام نفسها، حتى إدارة السجن نفسها، والطقوس اليومية لا تتغير، من ساعة الرياضة الصباحية، ثم وجبة الإفطار، حتى موعد الخروج إلى باحة السجن لتناول وجبة الهواء الطازج.
وقبل أن يلملم السجناء فتات الشمس المتناثر على بلاط باحة السجن، تأتي الأوامر الإسرائيلية بإغلاق السجن قبل المغرب بساعة من كل يوم، ليبدأ توزيع وجبة العشاء على غرف الأسرى، والنداء عبر مبكرات الصوت للاستعداد لعد المساء، إذ تجرى عملية عد السجناء مرة مع شروق الشمس، وأخرى قبل المغيب بهدف التحقق من عدم هروب أي أسير.
في سجن نفحة سلطتان: سلطة إدارة السجن، وسلطة الحكم الذاتي للأسرى، وهذا ما لا تعترف به عصافير سجن نفحة، تلك العصافير المعروفة باسم عصفور الدوري، وهو طائر ذكي جدًّا، لا أعرف متى استوطن السجن، ولا كيف استطاع هذا العصفور أن يصل إلى هذا المكان الذي نأى بنفسه عن الحياة، فنأت عنه الكائنات، إلا هذا العصفور المرح النشيط، سريع التأقلم والتعلم، عصفور يعرف كيف يعيش؛ فمنذ وطئت أقدامه أرض السجن أدرك أن الانتقال من هذا المكان إلى مكان آخر مستحيل، فالمسافة بين السجن وأقرب تجمع بشري قد تكون عشرات الكيلومترات، لذلك، لا مناص لعصفور الدوي إلا التأقلم مع حياة السجن، والتصرف وفق النظام القائم، وعلى عصفور الدوري أن يخلي الساحة من الصباح حتى بعد العصر، فهذا الوقت مخصص للأسرى، يخرجون للنزهة على دفعات، وساحة السجن لا تتسع لعصفور طليق وأسير عتيق، لذلك تعود عصفور الدوري أن يلتزم عشه في الصباح، وأن يظل هادئًا، مؤدبًا حتى بعد العصر، حين تبدأ مرحلة الهجوع للأسرى، وتبدأ مرحلة السطوع للعصافير.
تابعت سلوك عصافير سجن نفحة على مدار اليوم، فوجدتها قد غيرت من طباعها، فصارت تنام في النهار، وتغلق على نفسها الأبواب، ولا تفيق إلا بعد العصر، حين تغلق الغرف أبوابها على السجناء، فتمتلئ باحة السجن بصخب العصافير، ويعلو ضجيجها، وكأنها خرجت من سجنها إلى الباحة للتو، حيث فضلات الطعام المتناثرة هنا وهناك، وانعدام الحركة التي تأذن للعصافير بالزقزقة، ويغريها المساء، حين تتوهج أضواء السجن القوية، وتحيل الليل إلى نهار، فتنطلق العصافير بحياتها، تتكاثر وتتشاجر من بعد العصر حتى الصباح، لتعود إلى أعشاشها وقت خروج الأسرى لساعة الرياضة الصباحية، حين تغلق العصافير الأبواب على نشاطها، وتأوي إلى فراشها فوق الجدران، وفي الثغرات الصغيرة بالأسوار الشاهقة.
عصافير سجن نفحة حفظت درس الوقت، وتأقلمت مع المكان، وكأنها مئات آلاف العمال الفلسطينيين الذين يخدمون في المصانع والورش الإسرائيلية، فقد تأقلموا على الخروج من بيوتهم عند الساعة الثانية قبل الفجر، لينتظموا على الحواجز الإسرائيلية في صفوف، كي ينقلوا إلى أماكن عملهم في مدنهم وقراهم الفلسطينية التي صارت (دولة إسرائيل)، مئات آلاف العمال الفلسطينيين يصنعون الحياة لليهود، يتنافسون، ويزقزقون، ويتشاجرون فيما بينهم، ولكنهم جميعًا يخدمون السيد الذي يقدم لهم الطعام، ويرتب لهم المستقبل وفقًا لأطماعه، وقلة حيلتهم في مواجهة مخططاته.
ويا ويل أمتنا العربية إذا تواصل الانهيار، وتواصل الوقوع في شباك التطبيع مع الإسرائيليين، يا ويل الأمة التي يجهل شبابها وصباياها الفرق بين سكين الجلاد ورقبة الضحية، والخوف عليهم أن يصيروا عبيدًا للغازي الصهيوني، يرتب لهم أوقاتهم، وينظم لهم عقولهم، ويخطط لهم مستقبلهم الذي سيظل رهينة لمصالح الخواجا!
خلف الأسوار يتعود الأسير حياة السجن، يتخلى عن طباعه التي ألفها سنوات، ويراجع سلوكه الذي اعتاده في عالم الحرية، ويضبط ردة فعله على الأحداث، لا يبدو عليه الفرح مع الخبر السعيد، فقد يكون غيره حزينًا، ولا يظهر الحزن كي لا ينعكس ذلك على الآخرين، فيكفيهم ما هم فيه من بلاء، لقد فرضت المتغيرات الاجتماعية نفسها على حياة الأسير خلف الأسوار، فلكل حياة نظمها، وعليه أن يتأقلم طائعًا أو مرغمًا، عليه أن يدقق في تصرفاته بما ينسجم مع الواقع، الذي يفرض على الأسير أن يخفض من صوته، وأن يتعود الهدوء، وأن ينسى الانفعال والعصبية والصراخ، وأن يقرأ الكلام جيدًا قبل النطق به، فالسلامة ضبط اللسان، والمستقبل في استنفار القدرات، وحفظ درس الهدوء ودرس الصخب الذي أتقنته العصافير.
كان طول سريري في سجن نفحة الصحراوي مترين ونصف متر تقريبًا، وهذا امتياز، حصلت عليه بعد أن لجأت إلى القضاء الإسرائيلي، وطلبت زيادة على السرير تناسب طولي، ومنذ أكثر من ثلاثين عامًا، حتى يومنا هذا، يوجد في سجن نفحة هذا السرير الذي يحمل اسمي، ويخصص لكل أسير يتجاوز طوله 190 سنتيمترًا، هذا ما أكده لي الأسير المحرر أحمد الفليت.
أخشى على الدول العربية التي عشقت التطبيع مع أعدائها أن تلجأ ذات يوم إلى القضاء الإسرائيلي؛ كي تحصل على بعض الامتيازات في الزراعة والصناعة والثقافة والتعبير والتفكير والاستيراد والتصدير، وفي طول السرير، فالذي يغمض عينه في الغابة ستأكله الوحوش.