صدرت المراسيم الرئاسية التي انتظرها الشعب الفلسطيني منذ أحد عشر عامًا مضت، إذ انتهت المدة الرئاسية المقررة في القانون الفلسطيني للرئيس محمود عباس منذ عام 2009م، وانتهت مدة ولاية المجلس التشريعي منذ عام 2010م، ولكن إحجام أبي مازن عن إصدار المراسيم الرئاسية بتحديد موعد الانتخابات، كما يفرض عليه الدستور والقانون، أدى إلى الجمود الذي عطل الحياة السياسية الفلسطينية كل هذه المدة، وعلى كل الأحوال وكما يقال دائمًا أن تأتي المراسيم الرئاسية متأخرة –وإن أحد عشر عامًا– خير من ألا تأتي.
لو تأملنا في المسيرة السياسية الفلسطينية منذ قدوم السلطة الفلسطينية في عام 1994م، لوجدنا أنها مسيرة فاشلة بامتياز، وكان السبب الرئيس في فشلها دائمًا هو محاولة التفرد والهيمنة التي سيطرت على عقول القيادات الحزبية المختلفة، فمشروع الهيمنة وفرض الرأي يؤدي دائمًا إلى تعطيل الحياة الديمقراطية وما يصاحب ذلك من تراجع في كل المسارات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية، وهذا ما حدث لدينا.
فأول انتخابات فلسطينية أجريت بعد قدوم السلطة كانت في عام 1996م، ولم تشارك فيها حركة حماس، ولم تجرَ الانتخابات الثانية إلا اضطرارًا بعد وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات (رحمه الله) في عام 2005م، لينتخب الرئيس محمود عباس خلفًا له دون أن تنافس حماس بمرشح رئاسي، وفي عام 2006م أجريت انتخابات للمجلس التشريعي، ليتجاوز المجلس التشريعي الأول في ذلك الوقت مدة ولايته نحو ست سنوات، لا شك سيق من المسوغات ما سيق من أجل إسباغ نوع من الشرعية المزيفة على مدة الولاية غير الدستورية التي استمر بها المجلس الأول دون انتخابات، ومن أجل سد ثغرة استمرار الولاية للتشريعي دون انتخابات عدل المجلس الأول قبل انتهاء ولايته بمدة وجيزة القانون الأساسي، باستحداث مادة تنص على أن تنتهي ولاية المجلس التشريعي عند أداء المجلس المنتخب الجديد القسم الدستورية، وكانت هذه المادة بمنزلة غطاء لاستمرار عمل ولاية المجلس التشريعي المنتخب في عام 2006م، مع أنه غطاء لا يستر عورة الحياة الديمقراطية، ويحاول عبثًا تغطية خرق اتسع على الراقع كثيرًا، واستمر الرئيس أبو مازن ومن خلفه المجلس التشريعي منذ ذلك الوقت كلٌّ في موقعه حتى الآن، ليتجاوز الأول مدة رئاسته أحد عشر عامًا، ويتجاوز الثاني مدة ولايته عشر سنوات، هذا إذا قدر للانتخابات أن تجرى حسب المواقيت المحددة في المرسوم الرئاسي.
المدة المقبلة لا شك أنها مدة تحتاج للإجابة عن كثير من التساؤلات التي أنتجها الواقع المرير الذي عاشه شعبنا خلال المدة الماضية، فالانتخابات القادمة يجب أن تؤسس لحياة سياسية جديدة بعيدة تمامًا عن الحالة التي أورثتها انتخابات 2006م.
من أبرز هذه التساؤلات: هل ستحترم نتائج الانتخابات أيًّا كان الفائز فيها؟، وهل ستستكمل العملية الديمقراطية وفقًا للمواعيد المحددة أم أن كل ذلك يتوقف على نتائج الانتخابات التشريعية؟، وهل سيتاح للفائز الحكم وفقًا لمقتضيات النصوص الدستورية أم أن الدولة العميقة لها قول آخر؟، هل سيعترف العالم بالانتخابات أيًّا كان الفائز أم سيشترط شروطًا تعجيزية على قوى المقاومة -إن فازت- تعيد الأمور إلى ما كانت عليه؟، وهل قوى المقاومة ستعيد الكرة ذاتها (وتلك مصيبة) أم أنها ستناور سياسيًّا وعلى أي مدى؟، هل سيحترم العدو العملية الديمقراطية أم سيعمد إلى إفشالها كما فعل في المرة السابقة باعتقال النواب وإجراءات أخرى؟، وما رد الشعب الفلسطيني والفصائل على ذلك لو حدث؟، وهل سيستغل بعضٌ تلك الإجراءات الاحتلالية ليستفيد منها أم أن الشعب الفلسطيني سيكون له كلمة أخرى؟، أسئلة كثيرة لا أظن أن أحدًا حتى اللحظة يمتلك الإجابة عنها، ولكن إذا قدر للشعب الفلسطيني أن يمضي في هذا الطريق؛ فهناك دروس وعبر يجب أن نتعلمها من المدة السابقة، دروس مهمة أولها أن حالة التفرد والهيمنة والاستئثار بالقرار لا يمكن أن تؤدي إلا إلى مزيد من الفرقة والمزيد من العنف، وتتيح للعدو أن يستغل هذه الحالة لتنفيذ مخططاته كما حدث خلال المدة السابقة، ولم يكن الشعب الفلسطيني وقيادته في وارد التصدي لإجراءات الاحتلال وهو في أشد حالاته ضعفًا.
نتعلم أيضًا من المدة السابقة أن احترام نتائج صناديق الانتخابات هي قيمة وطنية عظمى، وإهدارها يؤدي إلى صدع وطني ليس من السهولة بمكان ردمه، وستبقى آثاره ممتدة سنوات طوالًا.
نتعلم أيضًا مما سبق ضرورة تحييد مؤسسات الدولة عن التجاذبات السياسية، فهي ليست ملكًا لتنظيم أو فصيل ليتصرف بها كما يشاء، بل هي ملك للشعب الفلسطيني، ويجب أن تسخر لخدمته فقط دون استئثار من أي فصيل.
نتعلم أيضًا أن محاولة السيطرة على مؤسسات الدولة من طريق لون سياسي معين هي محاولة فاشلة، وإن تبدى لحزب أو تنظيم غير ذلك، مهما كانت نتيجة فوزه في الانتخابات، فمهما بلغت قوة التنظيم، ومهما كانت شعبيته؛ فإنها ستبقى ما بين مد وانحسار، وهذه هي طبيعة العملية الديمقراطية، ولنا في العالم دروس وعبر.
ولذلك المطلوب التركيز على العمل السياسي من الأحزاب والتنظيمات، وترك مؤسسات الدولة لتسير وفقًا للعملية الإدارية الطبيعية، ووفقًا للقانون، ودون تدخل يفسد هذه المؤسسات ويخرجها عن نطاق وظيفتها ويؤدي الي ضعفها وفسادها.
نتعلم أيضًا أن تولي المنصب العام أمانة ثقيلة ومدة مؤقت، مهما طالت، ولا يزعمن أحد أنه هو فقط الأصلح والأكفأ لتولي هذه الأمانة، فقد يكون هناك كثير ممن هو أصلح وأكفأ منه، ولكن لم تتوافر لهم الفرصة التي توافرت له، ولذلك عليه أن يستعين بأولي النهي والقوة والعلم بعيدًا عن المعايير الحزبية الضيقة أو الولاء الشخصي الذي يرتكز على النفاق والمدح الكاذب.
الشعب الفلسطيني شعب عظيم يستحق قيادة عظيمة، يستطيع اختيارها بكفاءة، لو أتيحت له الفرصة.