فى سبتمر 2006 كنت أحضر مع المرحوم د. عبدالوهاب المسيري مؤتمرًا في جنوب إفريقيا وكانت ورقتي عنوانها الموقف العربي من الصراع العربي الإسرائيلي. ولكنى لم أقدم الورقة ورأيت أن الموضوع لا يستحق البحث، فالعرب مجمعون طبعًا في ذلك الوقت وإن بدأت مظاهر التفلت عندما اعتدت "إسرائيل" على لبنان في يوليو 2006 حيث أصدرت مصر والأردن والسعودية بيانًا أدانت فيه حزب الله وانحازت هذه الدول الثلاثة لـ"إسرائيل" المعتدية وإن عقد وزراء الخارجية العرب اجتماعًا تضامنيًّا رمزيًّا في بيروت وهم أنفسهم من تواطؤوا مع "إسرائيل" على غزو بيروت عام 1982.
في المؤتمر وجدت حوالي خمسين ممثلًا لـ"إسرائيل" من الجامعات والكنيست والخارجية وطبعًا الموساد فاكتفيت بالإحالة إلى كتاب المؤتمر حيث يجد القارئ ورقتي ولم أشأ أن أفوِّت هذه الفرصة لتحذير الصهاينة بأمرين حقيقيين الأول أنهم كلما استدرجوا رأس الدولة وصار في حضنهم وضمنوه، كلما ابتعد الرأس عن الجسد فصار جيفة لا قيمة له بلا جسد وهو الشعب الذى يستنبت رأسًا جديدة تليق به مدركة لمخاطر السرطان على الجسد المصرى والعربى. أما النصيحة الثانية فهى أنهم كلما شجعوا حاكم مصر على سوء الإدارة فانتشر السخط والجوع؛ فإن ملايين سوف ترحل إلى فلسطين طلبًا للزاد الوفير لديهم فتكون نهاية "إسرائيل" الأسطورة. ولما حان وقت الغداء جلسوا معي يستفهمون هل ما قلته معلومات أم تخمينات؟ وبعد هذا الحادث بخمس سنوات ثار الشعب المصري على رأس الدولة.
لم أفقد الثقة في ادراك الشعب المصري والشعوب العربية الأخرى ووعيها بأنها جزء من أمة عربية واحدة جاءها الثعلب الصهيوني ليقضى على هويتها وأنه انقض على فلسطين ليتخذها كنقطة انطلاق إلى بقية الجسد وفي القلب منها مصر وهو ما حدث بالفعل.
ما كنا نعدُّ مسلَّمات عربية صارت لفترة مؤقتة حقائق. ولكن الذي أذهلنى أن مَن كانوا يتغنون بالأمة العربية وبمظلومية الشعب الفلسطينى وجدنا بعضًا منهم يهيمون بـ"إسرائيل" وكأنهم وجدوا ضالتهم.
وتفسيري فيما حدث للحكام دون الشعوب في هذه الدول أنهم يعتقدون حقًّا أن إيران تهددهم وأنها حلَّت في العداء مكان "إسرائيل" وأن الحكام المندفعين نحو "إسرائيل" كذلك واشنطن ورضاها عنهم هو أساس الشرعية الوحيد لنُظُمِهم ودعم تصرفاتهم.
كانت مشيخات الخليج تحتمي ببريطانيا ثم تحوَّلت الحماية إلى واشنطن. وقد حاول عبد الناصر باختراعه مصطلح الأمن القومي العربي مطمئِنًا لشعوب الخليج لحمايتهم ضد التهام الجيران لهم، كما آمن الشعب الفلسطينى بالطرح القومي وبأنه جزء من أمة واحدة يروِّج عبد الناصر لصلابتها وكانت مصر هي عصب الأمة.
ومن الواضح أن الأمة كانت متماسكة شكلًا أو بشعارات النُّظُم المستبدة العربية ووحدة الصف لكن قلوبهم شتى. ويبدو أن العرب ينظرون إلى مصر نظرة مركبة من خمسة عناصر: العنصر الأول أنها مصدر الثقافة والمدنية لهم. والعنصر الثاني أنها مصدر إلهام لكل الأفكار الجديدة. والعنصر الثالث أنها تريد أن تحتكر السيطرة عليهم وعلى عروشهم، وهو ما دفعهم إلى الانزعاج من شعارات الوحدة والاشتراكية وغيرها مما يمس مكانتهم وامتيازاتهم فضلًا عن تمزقهم بين شعارات عبد الناصر ضد "إسرائيل" والهيمنة الأمريكية الفعلية عليهم. العنصر الرابع أن مصر كانت تشكل عنصر أمان للدول والنظم العربية خاصة بعد أن ردع عبد الناصر عبد الكريم قاسم وأثناه عن غزو الكويت وما كان لصدام أن يكرر نفس الحماقة بعد ثلاثة عقود لولا هوان مصر 1967 وانزلاقها إلى هاوية كامب دايفيد التي تمنَّاها بعض العرب وساعد البعض الآخر عليها ولكنهم جميعا إلا قليلًا فرحوا في معاقبة مصر والانتقام منها، ولذلك لحِق الهوان أبناء مصر في هذه الدول وانكسرت هيبة مصر الفارغة والشكلية.
ولما فقدت الدول العربية خاصة مشيخات الخليج الثقة في ضمان مصر لأمنها بعد هزيمتها العسكرية والاجتماعية والسياسية عبر 1967- 1979 فتنت الدول العربية بالفائز بالضربة القاضية على جمال عبد الناصر وهو "إسرائيل" وواشنطن وهما الفائزان في المعركة الشاملة ضد الاستبداد العربى عمومًا وموسكو السوفيتية فأصبحت "إسرائيل" بالنسبة لهم مركز الثقل في المنطقة. ولم يهتم هؤلاء بأن إقبالهم على "إسرائيل" هو انحياز للقاتل ضد الضحية فالعبرة بالقوي، وأن هذا الانحياز هو انتصار للصهيونية على العروبة والإسلام.
العنصر الخامس أنه في مكمن بعض النفوس العربية إذلال مصر والمصريين والهيمنة على مقدرات مصر وحرمانها من أي دور وإنزالها إلى المرتبة الأدني التى توظِّف فيها مصر وأدواتها لخدمة السادة الجدد، بعد أن فقدت مصر البوصلة بكامب دافيد ونزلت طوعًا عن دورها الطبيعي في عجلة القيادة بل وانحدرت إلى دور المسهل لعقد الصفقات بين القاتل والمعجبين العرب الجدد.
والضحايا هم مصر الوطن ومعه المصريون ثم الفلسطينييون جميعًا. أما العروبة والإسلام فقد أصابت الفتنة أتباعهما، ثم أن العروبة والإسلام محفوظان إلى أن يقوم أتباع جدد يستحقون شرفهما.
هذا هو التفسير النفسي الذى أراه لقراءة المشهد الدرامى وهو غرام البعض بالجلاد بعد أن هزم الجلاد الصهيوني الجلاد العربى.
ومن الواضح أن نقطة البداية في الانهيار هي مصر ونظام الحكم فيها وسياساتها، فإن صلح أمر مصر قام العرب وهُزم السرطان، ولا بد أن مصر ستقوم مهما طال الزمن، خاصة وأن التجربة المريرة التى مرت بها طوال سبعة عقود من حكم لا يناسب حجم مصر ودورها ولم يدرك أن مصالح الوطن تخدم مصالح النظام إذا توافقت معه وأن الحكم الرشيد ليس ترفًا أو بدعة لمصر، فالحكم الرشيد هو المقدمة الضرورية لقلب المعادلات.