أدركت المقاومة بعد معركة الفرقان عام 2008م ضرورة إعادة تشكيل استراتيجية الاشتباك مع الاحتلال، بما يمكّنها من امتلاك أدوات قتالية قادرة على تحقيق الردع النسبي، وبالتالي جعل مسألة "إعلان الحرب" في دائرة القرار الإسرائيلي أمرًا معقدًا وأكثر حساسيّة. وفي هذا السياق، حلّت استراتيجية "بناء القوّة" التي تعتمد على مراكمة المجهود العسكريّ في المجالات كلها، استعدادًا للمعركة الأوسع مع الاحتلال، بديلًا عن استراتيجية "مشاغلة العدوّ" التي تقوم على استمرار الاشتباك التكتيكي مع الاحتلال في جميع الساحات، دون إحداث التأثير المطلوب في الفعل المقاوم.
فرضت استراتيجية "بناء القوة" على المقاومة تكثيف مشاريع الإعداد والتدريب في مجالي القوى البشريّة والأدوات القتاليّة المتنوعة، وقد تطلب ذلك الحفاظ على التهدئة مع الاحتلال قائمة، ما لم يتجاوز الخطوط الحمر. في المقابل، كانت بعض فصائل المقاومة ما تزال في مرحلة "المشاغلة" مع الاحتلال، نظرًا لأسباب عدّة، أبرزها: غياب الفهم السياسي العسكري، ومحدودية المقدرات العسكريّة، والتحرر من قيود المزاوجة بين المقاومة والحكم. بمعنى آخر، شكل وجود حالة من عدم الفهم العسكريّ المشترك عقبة أمام استراتيجية "بناء القوّة".
بفعل عدم وجود الفهم المشترك لطبيعة الصراع مع الاحتلال، تضررت مقدرات المقاومة -مرات عدّة- بشكل كبير، فضلًا عن تعطل مشاريع التدريب والتصنيع المحلي؛ إذ كان الاحتلال يستغل "تنقيط الصواريخ" غير المجدي في قضم قدرات المقاومة، خاصةً إذا كانت هذه القدرات استراتيجية بالمعنى العسكريّ. بالتوازي مع تعرض استراتيجية "بناء القوّة" لإعاقة عسكرية مؤقتة، واجهت المقاومة معضلة معنوية متمثلة في كيفية إقناع الحاضنة الجماهيرية بوجود مشروع استراتيجي يفوق الرد المقيد على عدوان إسرائيلي هنا أو هناك.
لكنّ إنجازات المقاومة في عدواني 2012م، و2014م مثّلت أرضية صلبة لتعزيز الفهم المشترك بين فصائل المقاومة، بما يتيح التقارب في الفكر المقاوم والتكامل العسكريّ الميدانيّ، ظهر ذلك بشكل أوضح في إطلاق مشروع "مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار" عام 2018م، وما نتج عنه من تأسيس "الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة"، التي عُهد إليها تأمين الحراك الشعبي وحمايته من الاحتلال. ومع استمرار مسيرات العودة، نضجت مهام "الغرفة المشتركة" بشكل أوسع، خاصةً في مجالي الدعم العسكريّ والتنسيق الإداري والاستخباري المشترك.
على الرغم من التوافق الجماهيري والفصائلي على أهمية "الغرفة المشتركة" كمرجعية وطنية لتنظيم الفعل المقاوم، إلا أن بعض فصائل المقاومة لم تنجح في إقناع قواعدها التنظيمية باستراتيجية "بناء القوة" التي تعمل وفقها "الغرفة المشتركة"، الأمر الذي دفع هذه الفصائل -أحيانًا- إلى الرد العسكريّ المنفرد على بعض جرائم الاحتلال، دون الرجوع إلى "الغرفة المشتركة". وفي هذا السياق، كثّفت المقاومة من جهود تعزيز العلاقة بين فصائل المقاومة، إلى درجة إمداد بعض الفصائل بأدوات قتاليّة متقدّمة، وتزويدها بمعلومات استخباريّة مهمّة، وسد احتياجاتها التدريبيّة والماليّة، بما يساعد على تحقيق الفهم المشترك والتنسيق الميدانيّ الدّائم.
أخيرًا، تُعدّ مناورات "الركن الشديد" التي أجرتها "الغرفة المشتركة" أواخر ديسمبر 2020م، مؤشرًا إيجابيًا على وجود حالة من الفهم المشترك بين فصائل المقاومة، والتوافق الفصائلي على توحيد قرار الاشتباك مع الاحتلال. لكن، دون إدراك فصائل المقاومة لأهمية استراتيجية "بناء القوّة" وضرورتها، فإن الفهم المشترك سيبقى محصورًا في الخطابات الجماهيرية والمناورات التدريبية فقط، وبالتّالي -فإنّه في الغالب- لن يتحقق في ميدان المعركة. لذلك، على المقاومة أن توازي الجهد الميداني بآخر فكري قادر على صوغ ميثاق عسكريّ جامع يتبنى استراتيجية "بناء القوّة".