مما لا شك فيه أن ميثاق الأمم المتحدة تضمن العديد من المبادئ والقيم وكان أبرزها ما عرف بمبدأ حظر واستخدام القوة أو التهديد بها في إطار العلاقات الدولية، لكون هذا المبدأ ينطوي على أهمية بالغة في حفظ السلم والأمن الدوليين، لكن وبالبحث المعمق فإن هذا الميثاق أيضًا لم يمنع مطلقًا استخدام القوة في إطار الدفاع الشرعي.
الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للتوسع في استخدام القوة ودفع الدول لتطويع هذه المساحة لصالحها في نزاعاتها المسلحة، وخصوصًا في ظل الاجتهادات الحاصلة والتفسيرات المتباينة لهذا الحق، وقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإعادة تشكيل القواعد القانونية الدولية بعد "أحداث 11 سبتمبر" بحيث لا تتعارض مع مصالحها، وتضفي مشروعية كاملة على أعمالها الحربية وكذلك أعمال حلفائها في المنطقة والعالم.
والتي كان منها غزو أفغانستان عام 2001 وأيضًا حربها على العراق في 2003 معتبرة أن ما قامت به قواتها يندرج تحت هذا المبدأ وهو ممارسة حق الدفاع الشرعي في مواجهة المخاطر التي تعرضت لها بلادها أو على وشك أن تتعرض لها انطلاقًا من هذه الدول.
لكن الاستثناء الوارد في المادة (51) والمتعلق بحق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي جاء مشروطًا وفق ضوابط خاصة منها؛ أن تتعرض الدولة لعدوان مسلح، وأن يكون الفعل أو الخطر حالًّا وقائمًا، وأن يكون فعل العدوان غير مشروع، ويكون على قدر من الخطورة والجسامة.
في حين فرضت قيودًا تنظم فعل الدفاع تشمل أن يكون فعل الدفاع هو الوسيلة الوحيدة لصد العدوان، وأن يوجه الفعل إلى مصدر العدوان، وأن يتسم هذا الفعل بصورة مؤقتة لحين تدخل مجلس الأمن على أن يخضع لرقابته، وتهدف هذه الرقابة إلى عدم تجريد مبدأ حظر استخدام القوة، وتقييد الدول عن التغول في استخدام هذا الحق.
وفي هذا السياق ظهرت مفاهيم متعددة منها ما عرف بالدفاع الوقائي أو الهجوم الاستباقي، والتي جاءت لترسخ معاني أخرى تتمكن الدولة من خلالها استخدام القوة المسلحة على سبيل الوقاية قبل وقوع العدوان، وذلك بهدف تجريد العدو مما يملك من وسائل القوة حتى لو لم يكن الخطر حالًّا وإنما قد يقع مستقبلًا.
لكن بتقديري أن غالبية الفقهاء يعتقدون أن هناك أطرافًا تسعى لتحريف المعنى من خلال التلاعب بالألفاظ والتحايل على هذا المبدأ الواضح بهدف تبرير السياسات والممارسات العدوانية التي لا أساس لها في القانون الدولي العرفي ولا في نصوص ميثاق الأمم المتحدة وبصورة خاصة ما ورد في المادة 51، الأمر الذي يمكن أن يوسع دائرة الهجمات والحروب ويقوض الاستقرار.
وقد سعت (إسرائيل) لإضفاء مشروعية على عدوانها وهجماتها المتكررة ضد الفلسطينيين والعرب في ظل تصاعد هجماتها في سوريا ولبنان وفلسطين، وهذا ما يدفع ناطقيها -السياسيون منهم والعسكريون- لتبرير العدوان في إطار الدفاع عن النفس، على الرغم من أن (إسرائيل) هي كيان عدواني وقوة احتلال توجد في الأرض الفلسطينية بصفة غير مشروعة، إلا أنها تحرص على إبقاء صورتها نقية وغير مشوهة أمام المجتمع الدولي.
ويأتي ذلك بالتزامن مع الدعم السياسي الأمريكي من الإدارات المتعاقبة والتي تؤكد دومًا تفهمها لحق (إسرائيل) في الدفاع عن نفسها، وذلك في سياق شرعنة جرائم وعدوان الاحتلال الاسرائيلي بحق الفلسطينيين والعرب، فـ(إسرائيل) حقيقة لا تدافع عن نفسها إنما تدافع عن احتلالها ووجودها الاستعماري، ولا يمكن أن ينطبق عليها هذا الحق بأي صورة كانت.
وقد حاربت الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى كل المحاولات الفلسطينية الرامية للحصول على الحماية في إطار القانون الدولي، وبذلت جهودًا كبيرة لمحاولة إجهاض خطوة الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية أو المساعي الأخرى الهادفة لإدانة ممارسات الاحتلال.
لذلك يتعين على السلطة الفلسطينية مطالبة الإدارة الأمريكية الجديدة باتخاذ إجراءات فورية من شأنها وقف محاولات تشريع العدوان الإسرائيلي تحت ستار الدفاع عن النفس، والعمل على تشجيع ودعم الجهود الفلسطينية الرامية لوقف العدوان الإسرائيلي وتوفير الحماية اللازمة التي يتيحها القانون، والتوقف عن استخدام اللغة التي تنزع الحق عن الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم.
وأختم هنا بمقتطف يسير كان قد نشره الكاتب "سوماس ميلن" في مقالة له في صحيفة الغارديان حينما كتب أن فكرة دفاع (إسرائيل) عن نفسها من هجمات غير مبررة من خارج حدودها شيء سخيف، لأن أي شعب محتل له الحق في المقاومة وليس من حق (إسرائيل) الدفاع عن نفسها من أراضٍ هي تحتلها بشكل غير قانوني.