فلسطين أون لاين

​كيف قدَّمت فاطمة حجيجي للوطن "ربيعَها" البريء؟

...
رام الله / غزة - يحيى اليعقوبي


كعادتها كل يوم، استيقظت فاطمة حجيجي (16 عاما) لأداء صلاة الفجر وذهبت إلى المدرسة في قرية "قراوة بني زيد" الواقعة غرب رام الله؛ ليكون رحالها الأخير في القدس حيث تركت بكل براءة ستة عشر ربيعاً على عتبات باب العامود التي شهدت آخر لحظات حياتها.

هي فتاةٌ نقية اختلطت دماؤها بأرض القدس، جسدها النحيل الذي لم يتجاوز 40 كغم لم يشفع لتلك الرصاصات كي تتوقف عن تمزيقه في وضح النهار؛ ليكتب التاريخ أن في يوم الأحد السابع من مايو/ أيار الجاري أن فاطمة كتبت رسالتها بدمائها لتبعثها إلى العالم والأسرى.

حين وصل الخبر

خرجت فاطمة من بيتها، بعد أن رتبت البيت، وأمسكت ملابس الصلاة بيديها وأوصت شقيقاتها: " اذا مت شهيدة ديروا بالكم على أمي "؛ وصلت فاطمة إلى باب العامود؛ ومن مسافةِ صفر ومن أربع فوهات بنادق خرجت عشرون رصاصة على منطقة الظهر، سقطت فاطمة أرضا وتركت تنزف نحو ساعتين حتى فارقت الحياة.

"عاشقة الشهادة"؛ لقبٌ أطلقته فاطمة على نفسها قبل استشهادها فمعظم ما خطه قلمها على صحفتها على مواقع التواصل الاجتماعي ذيلته بهذا التوقيع.

أثناء ذهاب فاطمة للقدس كانت والدتها أم عبد الرحمن حجيجي ( 37 عاما في زيارة عائلية لبيت والدها، وحينما عادت حاولت الاتصال بابنتها ولكن لا مجيب؛ لم يرتح قلبها لهذا، وما لبثت أن وفدت جموعٌ من النساء إلى البيت؛ ليبلغنها بالخبر: يا خالتي بنتك شهيدة؛ تجاهلت كلامهن وقالت الأم: " يا حرام .. مين اللي بنتها استشهدت الله يصبرها "، وكررت سؤالها: " وين فاطمة".

لكن امرأة أرادت من أم فاطمة أن تواجه الحقيقة بطريقتها: " زغردي .. بنتك شهيدة "، نظرت إلى من حولها ودموعها تئن وتسبق صوتها: " لسة ما طلعت نتائج التوجيهي، لسة مش وقت الحفلة لأزغرد .. فاطمة؛ تعالي وين رحتي يا أمي وين "، لكن فاطمتها أعدمت بدم بارد، تاركةً كل شيءٍ خلفها إلا ذكراها وطيفها الذي سيبقى يذكر عائلتها بحنانها ومرحها ومواقفها الجميلة مع والدتها وإخوتها الأربعة، وشغفها بقضية الأسرى.

يشق الحزن قلب أم عبد الرحمن بعد فقدانها لابنتها الكبرى، كانت تفيض أمومةً وهي تقول لـــصحيفة "فلسطين": "لطالما تأثرت فاطمة بما يعيشه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال وتابعت ما يجري معهم أولاً بأول، وروحها الحنون قُهرت على شهداء الإعدامات الميدانية بدمٍ بارد".

وفي صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي " فيس بوك "؛ كانت فاطمة شهيدة حية بمنشوراتها؛ ففي 21 إبريل/ نيسان الماضي، كتبت " اللهم أرزقني شهادة في سبيلك "؛ وخطّ قلمها قبل ذلك بتهكم على تهديدات الاحتلال : " قالوا للشهيد هدوا بيت أهلك فقال لهم " مش مشكلة أنا بالجنة ببنيلهم قصور ".

" عاشقة الطعن والشهادة " ذيلتها على منشورٍ لها في 24 مارس/ آذار الماضي فعلى ذات الصفحة، كتبت "اطعنهم بسكين، ادعسهم بكل قوتك .. ما تخلوا ولا جندي على الحواجز "، وتوصي بذات الرسالة " اقتلوهم .. نتنياهو طز فيك وفي جيشك ".

واختتمت آذار على طريقتها : يا مَحلا الموت كرمال الوطن الغالي".

إشارات تمهيد

اللافت في الأمر أن الشهيدة فاطمة اعتقلها الاحتلال بمايو/ أيار العام الماضي، بتهمة محاولة تنفيذ عملية طعن، وهو ذات شهر استشهادها، وتكمل والدتها: "في السجن جرَّبت التعذيب؛ وضُربت وصبرت ".

"ليش ضربوني ؟ وعذبوني؟ ".. أسئلة مختلفة لم تجد فاطمة من يساعدها للإجابة عليها سوى دعوات وأمل بأن تنال الشهادة، ووعيد بردها على الاحتلال.

لذا لم يكن غريباً أن تضرب فاطمة عن الطعام قبل استشهادها لمدة خمسة أيام تضامناً مع إضراب الأسرى في سجون الاحتلال، والكلام لوالدتها، لدرجة أنها رفضت تناول الماء والملح خلال ذلك، مع محافظتها على صلاتها وقيام الليل والدعاء وتلاوة القرآن، كانت تتحدث دائما عن طلب الشهادة حتى تعلقت روحها بذلك، عشقت فلسطين، ولطالما طمحت أن تكون إعلامية مدافعة عن حقوق الأسرى.

وقبل أن يحدث ما تتمنى، كانت تلح بأسئلة أخرى على والدتها نابعة من واقع الحال، تندب حظها بأنها لم تلحق بركب الشهداء، وتارة تتساءل عن عدم وجود أحد يأخذ بحق الشهداء الذين يعدمون بدم بارد، وتتساءل عن أسباب عدم وجود من ينتبه لقضيتهم.

بعد كل حوار، كان الخوف يتسلل إلى الأم فتراقب تحركات ابنتها وتوصيها على نفسها، لتجد الإجابة من ابنتها المطيعة؛ التي ما تلبث أن تطمئن أمها بالقول لها: " إن شاء الله برفع راسك وبكون صحفية وتفتخري بي ".

تتبسم والدتها رغم الجرح الذي يعصف قلبها، بأن فاطمة دائما كانت تقلد مذيعي الأخبار ومقدمي البرامج على القنوات التلفزيونية لتختصر على نفسها الزمن في إتقان مهنة المتاعب.

لم تنته قصة الشهيدة هنا، بل تعتز والدتها بأن فاطمة حصلت على المركز الأول في برنامج حساب الذكاء العقلي على مستوى الضفة الغربية، وأدهشت كل من وجه لها أسئلة في سرعة حل المسائل الحسابية المعقدة في ثوان معدودة، وكانت العائلة تتوقع أن تحصل على المركز الأول على مستوى فلسطين في مسابقة كان من المقرر أن تنظم بعد شهر رمضان.

بالإضافة إلى حبها للإعلام، اهتمت فاطمة بالشعر، وكذلك بالتطريز، تستذكر ما كانت تعدها به: " بدي أرفع راسك بالذكاء العقلي "، فالشهيدة بالنسبة لها ليست ابنتها فحسب؛ بل كانت العلاقة بينهن أشبه بصداقةٍ لم تخفِ فاطمة لوالدتها حبها وسعيها المستمر لنيل الشهادة.

استدعاء الأب

وعن استقبال العائلة لخبر استشهادها؛ يقول عم الفتاة محمد حجيجي: "علمِنا بنبأ الاستشهاد عن طريق الارتباط الفلسطيني الذي اتصل ليستفسر عن شهيدة من العائلة تدعى فاطمة حجيجي، وبطبيعة الحال لا توجد فتاة بالعائلة غيرها يحمل هذا الاسم، كما تلقينا اتصالا من محافظ رام الله وبدوره أكد خبر الاستشهاد قبل أذان المغرب بنصف ساعة".

بعلامات الدهشة لا يستطيع عم الشهيدة تصديق ما جرى، يود لو أنه حلم: "لم نتوقع استشهادها (..) فاطمة نحيلة الجسم كيف تشكل خطرا على جنود مدججين بالسلاح؟، إلى متى سنكتوي من ويلات ومآسي الاحتلال؟".

ويتنهد بحرقة مواصلاً : "كنا نعيش بترابط عائلي؛ نغصوا على حياتنا بهذه الجريمة".

لم يقف الأمر عند الخبر المفجع؛ بل في تمام الساعة الحادية عشرة مساءً من أول أمس، ورغم الانهيار النفسي لوالدي الشهيدة، إلا أن مخابرات الاحتلال هددّت باتصالٍ هاتفي إما بحضور والدها لمقابلتهم أو باعتقاله.

وبدى العم غاضباً في حديثه لنا، إذ قال بنبرةٍ ممزوجة بالحزن والأسى: "مطلوبٌ من الشعب أن يستمر في صموده، وسنبقى نذهب إلى القدس لنزور عائلاتنا ولن يمنعنا استشهاد فاطمة من ذلك".

وحين يكون الحديث عن القدس؛ فإن هذه المدينة ترى فاطمة وكل من خالطت دماؤهم طيبها؛ كـــ ملاك بريء ظل نائماً على عتباتها.

ولا يستغرب عم الشهيدة من تغول الاحتلال على الشعب الفلسطيني فهو يتمرد على العالم، الذي لا يحرك ساكنا تجاه سبعة آلاف أسير يعيشون موتا بطيئا في سجون الاحتلال، ليتساءل: "ما الذي سيرد الاحتلال بعد ذلك؟".

لقد أرادت صاحبة الحكاية أن تكون كهديل عواد، ودانيا ارشيد، وبيان العسيلي وأشرقت قطناني، وهديل الهشلمون، " يما بدي أكون شهيدة وأرجع الك متحنية بدم الشهادة .. ويقولوا الشهيدة فاطمة "، فكان لها ما تمنت.