من الطبيعي أن الحاكم العربي يمتعض من مطالبة شعبه بأن يكون له حقوق وفقًا للقانون، وأن يكون مواطنًا وليس رعية، لأن التقاليد السياسية في المنطقة العربية استقرت على أن الحكام ومن يتبعهم في مرتبة والشعوب في مرتبة أخرى، وأن عطايا الحاكم للشعب من الفضائل مادام هو السيد الأعلى وأنه يملك ويحكم، وأنه هو الذي يضع القانون للرعايا ولا يملك أحد أن يطبقه عليه ولا يخضع للمحاسبة من أى نوع، ويظل منذ توليه السلطة بطريقة لا علاقة للشعب بها حتى يتوفاه الله في منصبه، ولا تختلف النظم الملكية عن النظم الجمهورية في ذلك سوى أن النظم الملكية لديها بعض النماذج التي تترك للحكومة الهامش المحدد من الحرية دون أن تمس صلب هذه النظرية. لهذا السبب يقف الحكام العرب من الديمقراطية موقفًا معاديًا، لأنها تعني ببساطة أن الشعب له إرادة وأنه يختار الحاكم، وأنه بذلك يملك سلطة عزله، وبالديمقراطية ينشئ مبدأ المحاسبة والرقابة وتوزيع السلطة، والشعب من وراء المؤسسات حارس ومحاسب وفقًا للدستور يرغم الحاكم قبل المواطن على احترامه، وبالديمقراطية ينشأ النظام السياسي، وهو المؤسسات وفقًا للدستور، فيفصل بين السلطات وفقًا للدستور ويستقل القضاء عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولذلك يستحيل التأثير على القاضي كما يستحيل أن تجتمع السلطات فى يد الحاكم، مهما كان محبوبًا، ويظل الحاكم في النظام الديمقراطي حتى لو كان نظامًا ملكيًّا خادمًا للشعب الذي تستقر عنده السيادة.
هذا النموذج يحاربه الحكام العرب لأنه يجفف الفساد بكل أنواعه، ويحقق العلاقة المباشرة بين المواطن والوطن، وتصبح الدولة هي المعبرة عن الوطن، وهي الدائمة، وأما النظام فيقاس وضعه وكفاءته بمقدار خدمته وأدائه لوظائفه تجاه المجتمع والدولة.
ولما كان النظام الديمقراطي اختراعًا غربيًّا فمن الطبيعي أن يمارس الغرب النفاق، فيحرص على الديمقراطية لمواطنيه كما يحرص على الدكتاتورية للشعوب العربية، بل ينشأ حلف بين الغرب والحكام العرب يؤدي إلى تمكين هؤلاء الحكام من طريقتهم المستبدة وإبعاد الشعوب العربية عن السلطة، وفي الوقت نفسه لا يمل الغرب من الحديث عن حقوق الإنسان التي اخترعت خصيصى للدول المتخلفة، وهي لا تعني شيئًا مادام الغرب يضن على المواطن العربي بصفة الإنسان، ثم يشكو الغرب آثار التحالف الآثم، وهو تغول الحاكم المستبد على شعبه، فيهاجر الشعب مضطرًّا إلى الغرب ويلتحق بجماعات العنف المسلح التي يوفر الغرب لها السلاح والفرص مادامت تمارس الإرهاب خارج أراضيه.
هذا الفارق بين الحاكم العربي والشعب والنظام والوطن في العالم العربي، وتراكم المظالم والقهر لدى الشعوب، واستمرار التحالف والنفاق الغربيين، وانسداد الأمل لدى الشعوب العربية في أي مستقبل هو الذي أدى إلى أن الشعوب العربية ثارت على جلاديها ثورة سلمية حضارية، أملًا أن يفهم الحاكم العربي أنه لا يمثلها وأنها مصرة على أن تتحدث عن نفسها، ولم تسلك سلوك الثورة الإيرانية التي كفرت بالدولة القديمة، فنصبت المشانق للقيادات العسكرية والأمنية التي كانت ذراع الشاه وسلاحه الذي يموله الشعب لقتل الشعب والقضاء عليه، فأنشأت خلقًا جديدًا وأدركت في البداية أن القلة الحاكمة قد أجرمت بما فيه الكفاية، وأنها لايمكن أن تندمج في النظام الجديد، لأنها أدمنت الفساد والقهر والقتل ونهب أموال الشعب، ولذلك إن الغرب والحكام العرب يكرهون إيران الحالية التي أقامت دولة جديدة بالثورة العنيفة ردًّا على دموية النظام، والدليل هو أن الحكام العرب جميعًا إلا قليلًا كانوًا أصدقاء إيران الشاه، ولكن إيران الثورة صارت خطرًا عليهم وعلى الغرب المتحالف معهم، بل إن هذه الثورة قد لمست جرحًا عميقًا لديهم، وهو معادة (إسرائيل)، وصار الحكام حلفاء (إسرائيل) على حساب الفلسطينيين ضد النموذج الإيراني الذي يهدد عروشهم، وأنفقوا كل غال ورخيص في معركة البقاء، مع أن الحل ميسور، وهو إصلاح العلاقة مع شعوبهم والاعتصام بالعدل معهم، والتزود بأوراق القوة الحضارية في العلاقات الدولية التي تملكها إيران.
النقطة الثالثة هي أن الجامعة العربية هي النادي الذي يجمع الحكام العرب، ولذلك كان طبيعيًّا أن تنحاز الجامعة إلى صاحب القرار فيها، وهو الحاكم العربي؛ فاتسعت الهوة بين الفريقين: فريق الحكام عمومًا في إطار الجامعة العربية، وفريق الشعوب عمومًا الذي لا يمثله أحد.
وفي ضوء هذه الحقيقة وفي إطار هذه الصورة كان طبيعيًّا أن يحاول النظام القديم بمساعدة الحكام العرب أن يقمع ثورات الشعوب، وقد أعد لكل دولة طريقة تقمع بها الثورة، ثم تمكنت القوى المضادة للثورة والموالية للحاكم العربي من أن تستقر بعد قهر الثوار الذين هم عموم الشعب، وأن يستعين النظام القديم عافيته، وأن يستفيد النظام الجديد ويحصل على ثمن الإنقاذ.
وقد ظن الحكام العرب ومعهم جامعتهم أنهم كسبوا الحرب بين الحاكم والشعب في معركة تاريخية قادتها القوى المضادة، في داخل كل دولة وعلى مستوى الدول العربية، فبدأ الهجوم على الثورات واتهمت بأحط الأوصاف، وعدّ شهداؤها قتلى في معركة ضد الأسياد، علمًا بأن النظام هو الذي قتل هؤلاء وهم يعلنون رفضهم لها.
فهل قامت الشعوب العربية بثورتها التي تطالب بالتغيير بطريقة سلمية ضد النظم الصالحة والديمقراطية أم ضد نظم فاجرة ومستبدة؟، وهل شعاراتها ليست مشروعة؟، ومن يحاكَم: الحاكم الفاسد الذي استمرأ الفساد والظلم فاضطر شعبه إلى الانفجار أم الشعب الذي اكتفى بإعلان رغبته بالثورة في تغيير الحاكم؟
وهل يعتقد حكام العالم العربي أنهم آمنون لتحالفهم مع الغرب وقهروا ثورات شعوبهم واستقرت لهم الأمور حتى يجاهروا بعدائهم لهذه الثورات، بدلًا من أن يحمدوا الله أن الشعب المظلوم طالب سلميًّا بتغيير الحاكم بعد أن يئس من الأمل في أن يصلح الحاكم ما أفسده، وكان جديرًا بالحكام العرب أن يخصصوا وقتًا في جلساتهم فيسجدوا لله ويعلنوا التوبة عما فرطوا في جنب الله ضد شعوبهم، وأن يعتذروا للشعوب العربية، وأن يفكوا تحالفهم مع السرطان الصهيوني الذي يدفعهم إلى الهلاك.
بعد قمة البحر الميت لم يعد هناك أمل لدى الشعوب العربية في التغيير السلمي بعد هذه التجربة المريرة، وأظن أن نموذج القوة الإسلامية في إيران هو الذي ترك أمامهم، وقد كان الشاه مدعومًا أكثر منهم من جانب (إسرائيل) والولايات المتحدة، ومع ذلك اقتلعته الثورة العنيفة، ولو كانت ثورة سلمية لاستمر الشاه بين الحكام العرب اليوم.
وأخيرًا أرجو أن يتفهم الحكام العرب هذه النصيحة، وأن يعودوا إلى شعوبهم، وأن يحترموا الدستور والقانون، وأن يتمسكوا بحق المواطنة، وأن يعلموا أن العولمة قد راكمت ووثقت خطاياهم عند الشعوب والغرب، وأن إصرارهم على طريقتهم القديمة قبل العولمة فيها الكثير من الجسارة والجور على مستقبلهم، فالغرب من مصلحته أن يتعامل مع نظم ديمقراطية في المستقبل، وإلا قضى عليه الإرهاب الذي صنعه قهر الحكام العرب.