فلسطين أون لاين

ما وراء جهر المغرب بالتطبيع

...

التحق المغرب؛ يوم الثلاثاء، 22 كانون الأول (ديسمبر) الحالي، رسميًّا، بركب الدول العربية التي طبّعت، في العام الذي يوشك على الانصراف، علاقاتها مع الدولة العبرية، ليحتل بذلك المركز الرابع؛ وراء الإمارات التي فتحت الباب في أغسطس/ آب، تلتها البحرين بعد شهر، ثم السودان في أكتوبر/ تشرين الأول، في قائمة الدول التي خرجت عن مبادرة جامعة الدول العربية لعام 2002م، بعدم إقامة علاقات مع الاحتلال، إلى حين إنشاء دولة فلسطينية عاصمتها شرقي القدس.

تعد (تل أبيب) هذا التطبيع "الأكثر دفئًا من بين الاتفاقات الأربعة"، كما وصفه لسان رئيس وزراء الدولة العبرية، نتنياهو، فهو على الجبهة الخارجية بمنزلة اختراق جديد، لمنطقة المغرب الكبير، بعد عشر سنوات من الغياب، في إثر قرار نواكشوط وقف علاقاتها مع (تل أبيب) سنة 2010م، وعلى الصعيد الداخلي، ورقة رابحة في الصراع السياسي؛ فالأرقام تفيد أن ثاني أكبر تجمّع يهودي صهيوني، يزيد على 500 ألف يهودي، من أصولٍ مغربية، يحتل بعضهم مواقع متقدّمة، في المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية، في دولة الاحتلال.

وتعُده الرباط التطبيع الأكثر "براغماتية"، مقارنة بمكاسب بقية الدول التي سبقتها، فنظير استئناف العلاقات، بإعادة الوضع لما كان عليه بعد اتفاق أوسلو (إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي) في عام 1993م، وإخراجها إلى مسرح العلانية، بعدما كانت طي السرّية، بعيدًا عن الأضواء، منذ حقبة الستينيات؛ انتزعت اعترافًا "ثمينًا" من رئيس الولايات المتحدة الأميركية بسيادتها على منطقة الصحراء، التي تعد من النزاعات الأطول والأقدم في القارّة السمراء، وبهذا سوّغ المغرب الذي يرأس ملكه لجنة القدس قرار الانفتاح على الكيان الصهيوني، قصد الاستهلاك الإعلامي، والتخفيف من وقع الخطوة داخليًّا، وتدرك الدبلوماسية المغربية جيدًا مدى حساسية الآراء وتشابكها في قضية الصحراء، ما يعني أن الاعتراف الأمريكي، على الرغم من أهميته، غير قادرٍ على اختزالها؛ فحتى اللحظة لا حسم بشأنها على الصعيدين الدولي والأممي، وهذا ما أكده الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة، حين أعلن أن اعتراف ترامب لا يُغيّر شيئًا في القضية.

قُدّم أكثر من تأويل في معرض تفسير الخطوة المغربية المتوقعة؛ بالنظر إلى الإشارات المتلاحقة التي تكشف عن قرب حدوثها، وكانت أشهرها، قبل نحو سنتين، حين التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، وزير الخارجية المغربية، ناصر بوريطة، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقبلها تلبية عشرات المغاربة (إعلاميين ومهندسين وفنانين ورجال أعمال) دعوة رسمية، من وزارة الخارجية، إلى زيارة (إسرائيل)، وهذا ما أكده لسان حال ممثل الدبلوماسية المغربية، فالموقف ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة اتصالاتٍ متواصلةٍ بين عاهل البلاد، محمد السادس، والرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، منذ أكثر من سنتين.

رأى بعضهم، في هذه المقايضة، رغبة من الرباط في تحييد الولايات المتحدة الأمريكية في موضوع الصحراء، وإنهاء عقود من المقترحات المتعبة للرباط (جيمس بيكر وفكرة التقسيم، وكريستوف روس وتوسيع مهام بعثة الأمم المتحدة في الصحراء، وجون بولتون وإحياء فكرة الاستفتاء)، ولا سبيل لتحقيق ذلك غير إدخال (إسرائيل) في المعادلة، قصد ثني ترامب؛ المسيحي الإنجيلي المؤمن بضرورة خدمة (إسرائيل)، عن موقفه من المغرب وقضية الصحراء، خصوصًا، أنه أحجم، طوال ثلاث سنوات، عن تعيين سفيرٍ لإدارته في المغرب، قبل أن يتذكّر في الأسابيع الأخيرة من ولايته، جميل المغرب، أنه من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال بلاده.

ورأى آخرون أن قرار الالتحاق بركب التطبيع عادي جدًّا، لكونه نتيجة طبيعية لمراجعة المغرب سياسته الخارجية، حيث حلّت البراغماتية والمكاسب محل الولاء والاصطفاف، وبدا ذلك واضحًا في تغيير اتجاه بوصلة العلاقات، في السنوات الأخيرة، من الشرق (العالم العربي) نحو الجنوب (القارة الأفريقية)، بعدما وجدت الرباط نفسها أكثر من مرة ضحية تصدّع النظام العربي (قضية الصحراء، والأزمة الليبية، وملف كأس العالم ...)، فكل دولةٍ تبحث عن مصالحها المطلقة، من دون أدنى اعتبار لمصالح باقي الأشقاء، في هذا السياق، تظهر ورقة اليهود المغاربة الإسرائيليين التي يمكن للمغرب استخدامها للضغط، قصد إنهاء الصراع على منطقة الصحراء.

يُذكر أن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، حاول جاهدًا استغلال ورقة شعبية المغرب في صفوف هؤلاء اليهود، فشكّل فريق عمل لعقد مؤتمر لهم، برعاية الملك محمد السادس، لدعم سلام "فلسطيني – إسرائيلي" يستند إلى حل الدولتين.

يذهب تأويل ثالث إلى أن الاتفاق الثلاثي الأطراف بين الرباط وواشنطن و(تل أبيب)، ما يعني أن أمريكا ليست مجرد وسيط وفاعل خير، فمنطق العلاقات الدولية يفترض أن لها مكاسب من وراء هذه الصفقة، ويزيد قرار إقامة قنصلية عامة لها في مدينة الداخلة في إقليم الصحراء، لرعاية الاستثمارات الأمريكية في الصحراء ومنطقة غرب أفريقيا، من رجاحة هذا التأويل، على هذا الأساس، يكون الاعتراف الأمريكي مجرد إجراء لتنزيل الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، المعلن سنة 2018م، تجاه القارة الأفريقية، لمواجهة الخطر الصيني، متمثلًا في مشروع "الحزام والطريق"، وسبقه إجراءٌ آخر، قبل نحو شهرين، قام به وزير الدفاع الأمريكي (المستقيل)، مارك أسبر، تمثل في توقيع اتفاق شامل للتعاون العسكري بين الرباط وواشنطن، يهدف، بحسب ما يرى الوزير، إلى تقويض القوة الصينية في القارة السمراء.

وقد أثير سجال كبير، منذ 10 ديسمبر، بشأن القيمة الحقيقية لآلية الإعلان الرئاسي الذي وقعه الرئيس ترامب، ودلالته القانونية والسياسية في السياق الأمريكي، بين من رآه مجرّد أداة عملية في السياسة العامة، ما قد يجعله في مهبّ الريح بقدوم الرئيس الجديد، جو بايدن، خصوصًا أن إدارته تضم أنصارًا لجبهة بوليساريو، وبين من عدّ الإعلان، إلى جانب المذكرات والأوامر التنفيذية، أدوات مخوّلة حصريًّا للرئيس، وإن لم تعرّف صراحة في الدستور الأمريكي، على الرغم من قبولها دائمًا في الإجراءات الرئاسية، واستخدامها بشكل متكرّر.

كشفت الخطوات اللاحقة للإعلان الرئاسي أن القرار صادر عن الإدارة الأمريكية: وزارتي الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات، منها التزام مختلف الإدارات الأمريكية بمضامين القرار، ومراسلة واشنطن مجلس الأمن، قصد تغيير موقفها من قضية الصحراء ... وغيرها من إجراءاتٍ تؤكّد قيمته القانونية والمؤسسية، ويقود هذا كله إلى طرح تساؤل مفاده: هل انتقلت أمريكا في قضية الصحراء من سياسة تدبير (إدارة) النزاع نحو حل النزاع؟، يبقى الجواب رهين هل واشنطن ستضع ثقلها لاستصدار قرار في مجلس الأمن لمصلحة المغرب.

يبقى تحقيق هذا الحلم بعيدًا، على فرض حسن نيات واشنطن تجاه الرباط، فاتضاح معالم المعادلة الأمريكية الجديدة التي تتجاوز الجهر بالتطبيع بين الرباط و(تل أبيب)، نحو إقحام المغرب في جبهة التصدّي للخطر الصيني، ينذر بمخاطر جمّة، واحتمال توتر حقيقي في منطقة الصحراء، لو قرّرت الصين، أو روسيا التي لا تتوقف عن تسليح الجزائر، احتضان جبهة بوليساريو.

المصدر / محمد طيفوري - العربي الجديد