في غزة يتجاور المسجد والكنيسة في لوحة عقائدية تزين وجه فلسطين، وترسم أفقاً للمحبة والتسامح بين الأديان، ففي غزة القديمة، شرق مستشفى المعمداني، جنوب شارع عمر المختار، يوجد مسجد "كاتب ولاية" الذي بني في عهد السلطان المملوكي قلاوون قبل أكثر من 600 عام، وتلتصق بالمسجد من جهة الجنوب كنيسة القديس "برفيريوس" والتي تم بناؤها سنة 407 للميلاد، أي قبل 1600 سنة ، ولا يفصل بين المسجد والكنيسة إلا جدار بعرض 20 سنتيمترا، وهذا خير شاهد ودليل على تسامح أهل غزة، وعلى سلامة عقائدهم الدينية التي تؤمن بالتعايش والمحبة، واحترام الأديان السماوية، وتقدير الإنسان لأخيه الإنسان.
وعلى مر التاريخ العربي الفلسطيني، لم تشهد العلاقة بين المسيحيين في غزة وإخوانهم المسلمين إلا كل تفاهم وتناغم معيشي، وهذا ما حرصت عليه العائلات، وما التزمت به التنظيمات، فلم يبق تنظيم أو مؤسسة إلا وزار أماكن العبادة المسيحية، وقدم التهنئة لإخوانه المسيحيين في أعيادهم، فقد زرت شخصياً، وبرفقة وزير الأسرى هشام عبد الرازق كنيسة القديس "برفيريوس" قبل خمسة عشر عاماً، واستقبلنا أهلها بكل محبة وترحاب، وقبل سنتين؛ زار إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس كنيسة دير اللاتين في قطاع غزة، لتقديم التهاني بمناسبة رأس السنة الميلادية، وقال هنية في ذلك الوقت: إن الزيارة تأتي انطلاقا من العلاقة التاريخية بين المسلمين وإخوانهم المسيحيين، وهذه العلاقة ليست طارئة بل متجذرة، ونحن نعتز بالتعايش القائم بين أبناء الشعب الواحد، لقد تعايشنا مع إخواننا المسيحيين، وتنقلوا معنا بين طرقات الوطن، لهم ما لنا من حقوق، وعليهم ما علينا من واجبات تجاه القدس والأرض والمقدسات وثوابت القضية.
تعمدت نشر مقاطع من كلمة إسماعيل هنية ـ التي ألقاها قبل عامين ـ حتى يعرف القاصي والداني عظم الروابط بين أهل غزة، الذين التقوا على وحدة الهدف، وحب الوطن، وكراهية الصهاينة الغاصبين لأرضهم، والمدنسين لمقدساتهم، وبهذا المضمون جاءت زيارة وفد حركة حماس قبل يومين لكنيسة اللاتين في غزة، حيث التقى الوفد الذي ضم عدداً من الشخصيات القيادية والدينية مع شخصيات مسيحية وازنة، لتعكس هذه الزيارة حجم التقارب والتفاهم والمحبة بين المسيحيين والمسلمين، وأزعم أن هذه الزيارة في هذا الوقت قد ألقت حجراً، أغلق حنجرة كل من سعى بالفتنة، أو تعمد تشويه علاقة المحبة القائمة بين المسلمين والمسيحيين.
إن ما ينطبق على أهل غزة من تعايش ومحبة بين الأديان، ليتجسد بشكل عملي بين أهلنا في الضفة الغربية، فلا تكاد تلمس فرقا في التعامل والعلاقة والصداقة والتجارة بين مسيحي ومسلم، فكلهم فلسطينيون يحقدون على المحتلين، ويفتشون عن درب الحرية؛ سواء أكانوا يقيمون في القدس أو بيت لحم أو قرى بيت جالا أو أحياء بيت ساحور أو في قرى رام الله، فالحياة المشتركة مدرسة المخلصين لوطنهم فلسطين.
ولتأكيد حضارة أهل غزة وحسن معشرهم، ووعيهم وعدم تعصبهم، تكفي الإشارة إلى أن أشهر مخابز غزة، وأكثرها تسويقاً، يمتلكه عربي فلسطيني مسيحي.
ملحوظة: حين زرت كنيسة القديس "برفيريوس" أراني الكاهن قبر اليهودي شمشون الجبار، وأراني بقايا العمودين اللذين كانا يحملان المعبد، لقد تعمدت الوقوف في المكان نفسه الذي وقف فيه شمشون الجبار، ووضعت يدي على بقايا العمودين، اللذين هزهما شمشون الجبار، لينهار تحت قوته المعبد الوثني، وسط الصرخة المشهورة: عليّ وعلى أعدائي يا رب.
وذلك إن صدقت الرواية الواردة في كتاب "التناخ" اليهودي.