للسعودية وضع خاص للغاية، فلا يجوز لحكامها أو مواطنيها أن يعدوا أنفسهم أحرارًا فيما يفعلوه داخل المملكة. ذلك أن السعودية نظام الحكم قائم فيها على الإسلام حتى وهي في مراحلها الأولى قبل أن يضم ابن سعود الحجاز.
فلما ضم الحجاز إلى نجد والمنطقة الشرقية والشمالية أعلن في 23 سبتمبر من عام 1932، إنشاء المملكة العربية السعودية التي تقوم على القرآن، وبالفعل كانت سياسة المملكة تراعي في معظم الأحيان هذا البعد الديني، كما كانت واعية بأنها تضم مشاعر المسلمين وفيها مكة والكعبة المشرفة التي يتجه المسلمون جميعًا إليها قبلة في كل صلواتهم، فهي بيت الله الحرام الذي حُرم على غير المسلمين النجس أن يزوروا مكة تحت أي مسمى وأي ذريعة أو يدخلوا ساحة الحرم لأي سبب.
فلما دخلت السعودية مضمار السياسات الإقليمية والدولية خاصة بعد أن صار النفط أساسيًّا والمصدر الأساسي للثروة، حاولت السعودية أن توفق بين وضعها ووضع الأماكن المقدسة فيها وبين سياساتها المتغيرة حسب مصالحها السياسية.
فحافظت في البداية على مقتضيات الدين ومصالح الدنيا، وكنت أحاذر أن تتمادى السعودية في سياسات تخل بالتوازن بين ثوابتها ومصالحها المتغيرة، وفي هذه المرحلة كانت قلوب المسلمين جميعًا تتجه إلى بيت الله الحرام في صلواتهم وقبلتهم ترنو إلى زيارة مكة والمدينة للحج والعمرة.
وأدرك بعض الذين تفاعلوا ضد السعودية خاصة إيران وليبيا القذافي، ومن قبلهم مصر الناصرية في اليمن، وبصرف النظر عن الخطأ والصواب في هذه التفاعلات، ظهرت دعوات بتدويل الأماكن المقدسة لكف يد السعودية عن استخدامها في إطار سياساتها الخارجية.
فمن الطبيعي أن تُخرج السعودية هذه الأماكن من سياستها الخارجية بمعنى أن زائر هذه الأماكن المقدسة لا يجوز أن يواجه رفض تأشيرة الدخول حتى لو كان من بلاد تعادي السعودية أو كان هو شخصيًّا له مواقف وآراء.
ولتفادي إدخال هذه الظلال السياسية في مجال العلاقات الحرة بين المسلم وشعائر دينه في مكة والمدينة، يمكن للسعودية أن تشدد على قصر وجود الزائر في مكة والمدينة ولأجل محدد، فليس له حرية زيارة مناطق أخرى خارج مكة والمدينة، ولا مانع من أن يكون هناك أشخاص تضعهم السعودية على القائمة السوداء والخطرين أمنيًّا عليها، وحتى لا يكون وجودهم بهدف الحج والعمرة مدخلًا للإضرار بالسعودية.
ويجب على السعودية أن تعطي التأشيرة لهؤلاء فقط، ولكن من حقها منعهم من الخروج خارج مكة والمدينة بل ولها الحق في مراقبتهم بشكل غير مباشر مثلما تتم مراقبة الدبلوماسيين في العواصم المختلفة، ويجوز للسعودية توقيفهم وحبذا لو عززت منظمة التعاون الإسلامي في جدة هذه الصيغة المتوازنة.
وفي أثناء الانفتاح الاجتماعي الذي أدخله ولي العهد رأيت وسمعت أصواتًا سعودية تقول: إننا أحرار في بلدنا، ولماذا السعودية التي يستغربون أن تكون بلدًا عاديًّا؟ وقال البعض: إن زوار البيت الحرام والحرم النبوي أحرار وفيما وراء ذلك فنحن أحرار نفعل ما نشاء.
وقياسًا على ذلك يرى كثيرون في المملكة أن التطبيع مع إسرائيل قرار سيادي لا يجوز التعقيب عليه، ولماذا طبعت دول أخرى وكان الاعتراض سياسيًّا عامًّا وعاطفيًّا؟
وأنا أقول: إن السعودية تختلف عن أي دولة أخرى في أنها رسمت صورتها الذهنية كدولة دينية تتشرف بالأماكن المقدسة وفيها دعوة إبراهيم التي كانت سبب كل الخيرات لها، وأن الملك السعودي تشرف بلقب خادم الحرمين الشريفين، وبالفعل تتفانى المملكة في خدمة ضيوف الرحمن وصيانة الأماكن المقدسة.
فقيام المملكة على الإسلام وحرصها على تطبيق الشريعة واتباع أحكام القرآن الكريم حتى أنها ترددت في إصدار نظام أساسي مكتفية بالقرآن كدستور ورعاية العمل الإسلامي المشترك ونشر الثقافة الدينية والتعليم الديني واللغة العربية، والمساهمة في أعمال البر والإغاثة والغيرة على القضايا الإسلامية حتى صارت المملكة مع هذه النشأة خير حاضن للأماكن المقدسة لدرجة أنه ما إن أثير تدويل الأماكن المقدسة حتى هب العالم الإسلامي يستنكر وربما كان رد الفعل راجعًا إلى عدم شعبية إيران وليبيا والقذافي اللتين قادتا حملة تدويل الأماكن المقدسة كجزء من التوترات والصراعات السياسية مع السعودية.
كل هذه الصورة الإسلامية الإيجابية للمملكة أكسبتها أوراقًا كثيرة في علاقاتها الخارجية، أضف إليها الغنى والثروة البترولية واحتياطياتها الهائلة ما جعلها إحدى دول مجموعة العشرين.
من ناحية أخرى، فإن الأقصى مسؤولية كل المسلمين وخاصة السعودية، واعترافها بإسرائيل قفزًا عن القدس انتهاكٌ لالتزام ديني وسياسي، ويجعل منظمة التعاون الإسلامي لا قيمة لها لأنها نشأت خصوصًا لتحرير الأماكن المقدسة في فلسطين وعلى رأسها القدس.
فالإسلام يحيط بنظام الحكم والمجتمع والدولة، ومهما كانت الضغوط على السعودية للاعتراف بإسرائيل، فإنه يجب مساندة السعودية لمقاومة هذه الضغوط خاصة أن السعودية هي صاحبة المبادرة العربية للسلام.
وقد لمحت في خطاب وزير الخارجية السعودي يوم الأحد 6 ديسمبر 2020، في حوار المنامة تناقضًا، إذ تبارك السعودية تطبيع شركائها البحرين والإمارات، وفي الوقت نفسه تقول إنها ستكون آخر من يعترف.
وأنا أرى أن السعودية بالذات يجب أن تربط اعترافها بإسرائيل بمسألة الأقصى، كما تتشاور مع الدول الإسلامية حتى لا تهدر قدسية الأماكن المقدسة وحتى لو حققت إسرائيل جدلًا شروطَ المبادرة السعودية، فإنها يجب أن تستعيد الأقصى كاملًا وألا تسعى كما تردد مؤخرًا لخلافة الأردن في إدارة المسجد الأقصى، حتى يسهل التفاهم مع إسرائيل لن تتمسك بأن القدس لها.
الخلاصة أن السعودية مختلفة تمامًا عن شركائها في مجلس التعاون الخليجي والدول العربية الأخرى، فلا يجوز أن تجرح مشاعر المسلمين زوار مكة والمدينة بأي موقف، ونصيحتي أن تعلن السعودية حيادها حتى تبعد عن التجاذبات السياسية وتتفرغ لخدمة الأماكن المقدسة بكل إخلاص وتجرد.
وأملي أن تعيد السعودية النظر في سياساتها الخارجية خاصة في فلسطين واليمن وغيرهما، وألا تخجل من هويتها الدينية وقد قطعت شوطًا في الاعتصام بالإسلام المعتدل، وألا تسمح بالمظاهر التي تخل برصانة وقدسية الأماكن المقدسة. فقد أسري بالرسول الكريم من المسجد الحرام وليس من مكة عمومًا إلى المسجد الأقصى حتى قبل أن يتم بناؤه، فلا تسمح للمطففين الذين يتجرؤون على قدسية الأقصى والتخاريف التاريخية الأخرى.