فلسطين أون لاين

حكاية كدٍّ "تحملها الأكتاف".. "الشجر الهرم" رأس مال "عبد العال"

...
d041577f-ad91-4e45-99ed-d815904c1271.jpg
غزة/ يحيى اليعقوبي:

 

تتهاوى قطرات العرق من ناصيته، لسعات الشمس تركت بصمتها على ملامح وجهه ويديه الداكنة، يركز قدمه على كومة أخشاب جلبها أمس بعد أن قطعها من إحدى المزارع في رحلة تعب ومشقة أخرى، يمسك مقبض المنشار الآلي بكلتا يديه يضغط بقوة منحنيًا قليلًا، أسنان المنشار تتحرك وتتسابق بسرعة لأكل القطعة الخشبية وشطرها نصفين، فينبعث غبارها مع صوت المحرك، ودخانه، قبل أن يهدأ الصوت ويأخذ الحطاب رائد عبد العال (50 عامًا) قسطًا من الراحة ورفع رأسه، ومسح جبينه.

بعد تجاوزك بابًا حديديًّا بُنِّي قديم بسوق "فراس" في مدينة غزة، ستدخل إلى قلب عالم يسدل ستاره على نفسه، ومنظر لا يراه كثيرون، أكوام أخشاب تتراص قطعها بعضها فوق بعض، تختلف أحجامها وأنواعها وارتفاع كل كومة.

في أرض لا سقف لها مستطيلة نوعًا ما وكأنها واقعة في حفرة محاطة بأسوار ترابية طبيعية من ثلاث جهات في حين تطل الجهة الرابعة على السوق، تتوزع أكوام الخشب كل نوع له ركن خاص، المشهد مرتب وكأنك ذاهب إلى متجر بيع الملابس فتجول بنظرك بينها لـ"تختار وتحار".

الساعة الواحدة ظهرًا، تبدو الشمس في السماء أكثر حرارة وتوهجًا من أي يوم تشريني آخر، انتهى الحطاب من قطع بعض الأخشاب التي أنزلت العرق من ناصيته المتصلبة من تعب وضريبة العمل في هذا المهنة، ليجلس على كومة الأخشاب التي قطعها.

الحطاب عبد العال ذو لحية يتحالف فيها الأبيض والأسود معًا، وشعر كثيف يغطي رأسه، وملامح داكنة تلخص حكاية عمرها ثلاثة عقود في العمل بالأراضي الزراعية وبين الأخشاب، تلك الأوجاع التي حملها على كتفه تروي حكاية أخرى من التعب والجد، لسعات الشمس من عمله خلال الأيام الماضية تزيد يديه احمرارًا.

عرض كبير ومعاناة أخرى

للوهلة الأولى ستدب الرهبة في قلبك من صوته الخشن وبنية جسده التي تعطيه سنًّا أصغر بعشرة أعوام، لكن الابتسامة المشرقة التي تعلو ملامحه تغير ذلك الحكم، يفرد ذراعيه للجانبين متأسفًا على حاله في أول حديثه مع صحيفة "فلسطين": "كما ترى يوجد عرض حطب كثير، من كل الأنواع، لكن الطلب قليل، وهذا الضعف ليس وليد اليوم بل نعانيه منذ سبع سنوات، زاد الأثر هذا العام مع أزمة كورونا، وكذلك رغبة مزارع الدجاج في استعمال "جفت" الزيتون؛ فطن الجفت أرخص ثمنًا من الحطب".

علامات الحيرة ترسم طريقها في وجهه وهو يشد حاجبه الأيمن للأعلى، ولا يجد تفسيرًا لما يجري، بلهجة عامية: "مفروض أكون من شهر بايع أطنان، تخيل إني آخر مرة بعت فيها قبل خمسة شهور"، وضرب "أخماس بأسداس" قبل أن يؤكد رضاه بنصيبه: "الحمد لله على أي حال".

يعرض الحطاب أكوامًا من الأخشاب المقطع، في هذا التوقيت من كل عام يزوره أصحاب الدواوين العائلية الكبيرة لتحلو سهرتهم مع دفء موقد النار بالحطب، وأصحاب مزارع الدجاج الذين يستخدمون الحطب لتدفئة المزارع فيطول احتراقها وتمنح الدجاج دفئًا و"وزنًا جيدًا"، وكذلك من يشترون الحطب ليحولوه إلى فحم.

ذاك الزائر المرتقب لم يأتِ، وأصبحت أكوام الأخشاب ضيفًا ثقيلًا يجثم على قلب عبد العال، يريد مفارقته، فمكانها فوق مواقد النار، يخشى أن يفارقها زوارها السنويون: "سأقول شيئًا؛ إضافة إلى ضعف الإقبال هذا العام على الشراء، أيضًا هناك مشكلة أخرى؛ فالمزرعة التي نقطع منها أشجارًا إما لكبر سنها، أو لفتح التهوية بداخلها مثل شجر الزيتون، لا نستطيع العودة إليها مرة أخرى إلا بعد سنوات طويلة".

يضم قبضة يده؛ ويعلي صوته وكأنه يجدد عهده مع الأخشاب وكأن بينهما "عشرة عمر": "أنا والأولاد ما بنقدر نستغني عن المهنة هاي حتى آخر عمرنا".

رأس مال "الحطاب"

مع كل صباح تشريني بعد قطف الزيتون، تتفتح أوراق الهمة بداخله، وتتفجر طاقة العمل، يقود شاحنته البيضاء، ويحمل زاده من طعام، وموقد، ودلو مياه للشرب، يجولون بين حقول الزيتون يعرضون على أصحاب المزارع تقطيع أغصان الأشجار التي تحتاج إلى فتحات تهوية، ويبدأ موسم عملهم، فغزة تشتهر بزراعة الزيتون، التي تصب خيرها على الحطابين، وكذلك يخلعون أشجار الزيتون التي زاد عمرها على عشرين سنة؛ فقد "قل حملها" في نظر أصحابها.

 ويبلغ سعر طن حطب الزيتون 200-300 شيكل، أما أشجار الحمضيات الأخرى مثل الليمون وغيرها التي يبدأ موسم قطعها في شهر أيار (مايو) من كل عام  فأسعار طن حطبها تراوح من 500 إلى 1200 شيكل، وفقًا لإفادته.

مرر أصبعه على جبينه ورمى قطرات العرق جانبًا، تذكره تلك القطرات بحجم التعب في مهنته، تلك القطرات شاهدة على رحلة طويلة في الكد والتعب: "في مهنتنا التعب كبير، تخرج من الصباح الباكر مع عمالك، وتجول بين الحقول لتسأل من يريد قطع أشجاره، ثم نبدأ تقليم وقص الأغصان، ثم تقطيع الجذوع أو الشجرة من جذورها".

"أحيانًا في الأرض الرميلة التي لا تدخلها الشاحنة، نسير مسافات طويلة ونحن نحمل الأخشاب على أكتافنا، أو نحضر الدواب والحيوانات لمساعدتنا، أو نأتي بجرافة"، تنهيدته هنا ممزوجة بأيام طويلة من العمل: "الشغل تبعنا شغل مشقة: قص، وقطع، وحمل".

ورث أبو إسماعيل المحطبة عن جده ووالده وأعمامه الذين كانوا يعملون بها منذ عام 1965م، يذكر أن أهالي فلسطين المحتلة سنة 1948م كانوا يأتون إلى هنا لشراء الحطب، ضعفي هذا الإقبال مع اندلاع انتفاضة الحجارة.

علت نبرة صوته وعلامات عدم الرضا والاستغراب وكومة مشاعر يسودها الإحباط تسيطر عليه: "تأثرنا بأشياء عديدة، أولًا كان الناس يشترون الحطب للطهي، وللعزاء كذلك، وهذا ما لا يحدث الآن".

خلفه في الأعلى تجثم كومة خشب من نوع "جزورينا" منذ سبعة أشهر أمام ناظريه، أما أشجار الليمون التي كان يقطعها لحظة وصولنا فقد أحضرها قبل أسبوع، يتوقف نظره عند جذع شجرة صنوبر كبير بقطر قرابة 100 سم، وطول يبلغ 15 مترًا.

عن كيفية قطعه هذه الشجرة الكبيرة، ابتسم عائدًا في ذاكراته للوراء، وهذه لا يستطيع التعامل معها إلا أصحاب الخبرة، يقول: "في البداية أقطع فروعها وأغصانها، وتصبح جذعًا فقط (...) استخدمت الرافعة الآلية (مانوف) لكونها عالية، ونخلي كل شيء حولها لضمان السلامة، ونقصها من الأسفل فتسقط، لأنها كبرت ويزيد عمرها على ستين عامًا، وفي هذا العمر تبدأ الشجرة في الانحناء".

في الأمام تغطي أكوام الأخشاب المقطعة من أنواع "الجميز" وشجر "الأثل" الساحة الشمالية الأخرى من أرض المحطب المكشوفة تحت السماء.

بداخل غرفة قديمة ترفع هامتها ألواح الزينقو، وهي أشبه بمكان مظلم لولا شعاع الشمس الذي يمنحها بعض النور، ترى عند مدخلها جذوع أشجار كبيرة يستخدمها الجزارون لتقطيع اللحوم، وأكوامًا من أخشاب الزيتون، وموقد نار وسريرًا وكراسًا، فيها يعيش الحطاب حياة أشبه ببدائية يستخدم الحطب في غلي الشاي، وإعداد الطعام، والدفء، والجمعات العائلية، تحت أصوات زخات المطر وهي تتساقط على الألواح الحديدية وتطربه أمام جمال المشهد.

يزيل إحدى القشور الكبيرة من الجذع معلقًا: "هذا النوع كنا نرسله إلى بيت لحم ويصنع منه الهدايا قبل 15 عامًا"، يضرب كفيه متحسرًا: "الآن الاحتلال لا يسمح بذلك"، ثم يتجه نظره نحو أحطاب الزيتون: "هذه من النوع السري، وهي مرتفعة الثمن".

يقف عند مدخل الغرفة، ينزل خيط شمس رفيع تسلل من ثقب في أعلى السقف على ملامحه وجهه، وحوله العمال ينصتون، فلا تخلو هذه المهنة من الجمال كما التعب: "الشيء الممتع، هو الاستيقاظ مبكرًا، أخذ الماء، والطعام، والحطب، والذهاب لقص الأشجار بين الحقول الزراعية".

يضحك: "بحب آكل كل شيء من تحت الحطب، ولو عندي بالبيت مساحة كبيرة كان ما استخدمتش الغاز".

هي "لقمة مغمسة بالدم"، يجمع هذا الحطاب بين الشقاء والمتعة معًا، فمن تعب قص الأشجار وحملها إلى تقطيعها، لكن حبها تجذر بقلبه، فيطربه صوت محرك المنشار الآلي وهو يتحرك على الأشجار، ويستمتع برؤية المساحات الخضراء، والعمل في ظلالها، فهنا تطمئن نفسه، تجذبه الأشجار المعمرة والهرمة التي لا يلتفت إليها أحد؛ فهي رأس ماله.