﴿فَأَسَرَّها يوسُفُ﴾ يوسف77
في قلب العتمة، حيث يتعانق الجوع مع الخوف، وتذوب الدموع في صمتٍ طويل، تنبثق بذرة لا تنكسر، كأنها وعدٌ قديم بأن النور لا يموت. هناك، ينهض الإيمان شامخًا كجبلٍ يطل على بحرٍ هائج، لا يتباهى بعلوّه، لكنه يثبت أن الثبات أعظم من الصراخ.
الأدعية المكتومة تسير كطيورٍ مهاجرة، تخترق سدود السماء، شاهدةً أن القلوب، مهما نُهشت، ما زالت تكتب قصائدها في دفتر الرجاء، وتخطّ عشقها للحياة وهي تمشي بمحاذاة الموت.
وفي ساعة العسرة القاهرة، حين تتآمر المخاوف مع الجوع والمرض، ينكشف باب واحد لا يُغلق: باب الله. هناك تتجلى العبادة الخالصة، عبادة السرّ التي لا تطلب جزاءً ولا شكورًا، بل تذوب في نهر الإخلاص، كما ذاب أصحاب الصخرة في أعمالهم الخفية، فكان الصدق لهم نجاةً حين ضاقت الأرض بما رحبت.
وفي زمن المطاردة والإبادة، يصبح الكتمان عبادةً، والحذر نجاةً، والسكوت لغةً للبقاء. حين تتحول الشبهة إلى رصاصة، والمعلومة إلى مقبرة، يصبح الكتمان دستورًا للحياة، كما أوصى النبي ﷺ: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».
وفي محرقة الفقد الكبرى في غزة المفجوعة بأغلى أبنائها، يُطلب منك أن تُخفي نفسك كظلٍّ في الفجر، أن تُخفي خطوتك كنسيمٍ في الصحراء، أن تُخفي اتصالك كهمسٍ في الريح. تعود إلى بساطة الحياة الأولى، حيث النجاة في التفرق لا الاجتماع، وفي التخفي لا الظهور، مستمسكًا بوصية يعقوب عليه السلام: ﴿لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾، مع يقينٍ أن الحفظ كله من الله، لا من الحيطة وحدها.
لكن هذه الملحمة ليست فردية فقط؛ إنها جماعية. فكما هاجر النبي ﷺ سرًا، وكما صبر موسى أمام فرعون، وكما احتمى المؤمنون في الغار، فإن الكتمان شبكة أمان تحمي الجماعة، وتحوّل الخفاء إلى قوة غير مرئية.
أنت لا تعاني وحدك؛ من حولك جراح مفتوحة، وأحبة غابوا، وبيوتٌ سُويت بالأرض، وحياةٌ كاملة أُزيلت من الذاكرة والجغرافيا. في هذا الركام، يُلقى على عاتقك عبء التماسك، لا لنفسك فقط، بل لمن تبقى. وقد تسمع كلمات قاسية، أو ترى مواقف موجعة، فتتجلى حكمة يوسف: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ﴾، فيكبر فيك فن التغافل، لا ضعفًا بل حكمة، لا هروبًا بل حفاظًا على القلوب في زمن الانكسار.
هكذا تمضي، وأنت تعلم أن كل هذا الصبر عبادةٌ خبيئة، تُدَّخر ليومٍ تُكشف فيه السرائر، ويشرق صباحٌ لا ليل بعده، حيث يُقال للصابرين: هذا ما أسررتموه لله، فكان أثقل في الميزان من كل صراخ الدنيا.

