رغم أن الأكثر شيوعًا عن أن أزمة العلاقات التركية السعودية بدأت بمقتل الصحفي جمال خاشقجي، فإن هذه الأزمة في الحقيقة بدأت بالظهور مع ثورات الربيع العربي نظرًا لتناقض المواقف بين البلدين تجاهها، وبرزت أكثر مع موجة الثورة المضادة وما كانت أزمة خاشقجي إلا رأس جبل الجليد فيها.
ومع ذلك ورغم المحاولات المتكررة للعديد من الأطراف في الإعلام والسياسة السعودية لتوتير العلاقة بين تركيا والسعودية عبر هجومها الحاد على تركيا حكومة وشعبًا وعلى الرئيس أردوغان شخصيًّا والاصطفاف مع كل من يخالفها منذ عدة سنوات، فإن تركيا حاولت جاهدة لتحول دون وصول العلاقات للقطيعة، وقد كان ذلك واضحًا في خطابات الرئيس التركي أردوغان ووزير خارجيته اللذين أصرا وحتى في أسوأ مراحل العلاقة على الحفاظ على هيبة الملك والدولة السعودية ومحاولة حصر المشكلة في أشخاص ومواقف معينة.
وهذا ليس بالأمر المستجد على تركيا، فهي تعلم أن إضعاف الدولة في السعودية في هذه الظروف لن يأتي بمصلحة لا على تركيا ولا المنطقة ولا العالم الإسلامي، بل سيخدم خصوم الطرفين، وفي الكثير من المواقف والأحداث كانت تركيا سباقة في الاصطفاف مع السعودية.
فمع انطلاق عاصفة الحزم في بداية عهد الملك سلمان أعلنت تركيا تأييدها للحملة وجهوزيتها لتقديم الدعم اللوجستي لها، وفي أكثر من مرة تثير إيران وغيرها من خصوم السعودية موضوع تدويل الحج، كانت تركيا تؤكد تأييدها لبقاء السعودية المسؤول الوحيد عن الحج ورفضها لتدويله والإشادة بأداء الدولة السعودية في خدمة الحجيج.
حتى في انتقادها لمواقف السعودية في القضايا التي تكون فيها السعودية على النقيض من تركيا بشكل رسمي مثل العمليات العسكرية التركية في الشمال السوري، والحديث عن دعم سعودي لمليشيات ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية الانفصالية والمعادية لتركيا، أو شبه رسمي مثل المواقف من أرمينيا وادعاء الأرمن بخصوص مذابح ارتكبت ضدهم في القرن الماضي مثل زيارة سفير المملكة لنصب تذكاري للمذابح في لبنان أو التقارب مع أرمينيا خلال السنوات الثلاث الماضية كنوع من التحدي لتركيا، كانت تركيا تركز في الهجوم على أطراف خليجية عامة ثم تخص بالذكر الإمارات مستثنية المملكة السعودية من النقد المباشر.
ولم يكن هذا فقط، بل كانت هناك العديد من الرسائل الإيجابية من تركيا نحو السعودية تصدر عبر الوسطاء غير المعلنين أو عبر العديد من الكتاب المقربين أو الممثلين لحزب العدالة والتنمية التركية مثل الدكتور ياسين أقطاي مستشار رئيس الحزب -الرئيس التركي أردوغان- وغيره كانوا بين الحين والآخر يحاولون إيصال هذه الرسائل عبر مقالاتهم المنشورة في المواقع العربية.
لكن الجديد في الأمر هي الرسائل الإيجابية التي صدرت في الآونة الأخيرة من أعلى المستويات في الدولة السعودية، بدأت بتعزية المملكة بضحايا زلزال مدينة إزمير في اليوم الأول للزلزال 30 أكتوبر 2020، ثم بتوجيهات الملك سلمان بإرسال المساعدات لتركيا للمساعدة في إغاثة منكوبي زلزال إزمير بتاريخ 6 نوفمبر، الرسالة التي رغم أنها جاءت متأخرة جدًّا إذ صدرت بعد أسبوع من الزلزال ورغم رفض تركيا لاستقبال أي مساعدات لأنها أعلنت أنها قادرة على حمل أعباء الزلزال، فإنها شكلت نقطة إيجابية تبعها اتصال مباشر بين الملك والرئيس التركي أردوغان للتباحث في مواقف البلدين قبل قمة العشرين التي عقدت بقيادة السعودية، وأخيرًا كان اللقاء الصحفي مع وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان والتي وصف فيها العلاقات التركية السعودية بالطيبة والرائعة، نافيًا وجود أي قرار بالمقاطعة الرسمية ونفى حتى ما يتداول حول وجود مقاطعة شعبية للمنتجات التركية.
بايدن وإيران وحاجة الطرفين للعلاقة
بعد تأكيد فوز بايدن لقد فقد الطرفان ترامب الذي كان البلدان على التناقض الشديد معه، إلا أنهما كانا يفضلان بقاءه، فالسعودية تريده لموقفه الحاد من إيران وقدرة السعودية على التأثير في مواقفه، وتركيا تريده لقوة العلاقة الشخصية بينه وبين أردوغان، الأمر الذي استطاعت تركيا من خلاله تجاوز العديد من الأزمات الخطرة مع الولايات المتحدة وآخرها كان منع صدور قرار العقوبات ضد تركيا بسبب اقتنائها منظومة الدفاع الجوي S400 وتسهيل مهام تركيا في الشمال السوري عبر سحب القوات الأمريكية من معظم مناطق الخلاف مع تركيا، وكذلك اعتبار العمليات من حق تركيا للدفاع عن أمنها وحماية حدودها.
ومع قدوم بايدن فإن السعودية تريد أن تستفيد من قدرة تركيا على التأثير في المنطقة عسكريًّا وسياسيًّا وفي الملف الإيراني بالتحديد لكونها ما زالت تملك علاقات قوية مع إيران، وكانت أحد أهم عناصر الحل في أثناء فترة أوباما، وقد تكون كذلك في العهد القادم إذا ما استطاعت استخدام شبكة علاقاتها ومصالحها في أثناء تموضعها في المرحلة القادمة.
ولكن هذه العلاقة ليست علاقة حب من طرف واحد بل تركيا أيضًا في حاجة ماسة لدولة قوية اقتصاديًّا مثل السعودية لتكون بجانبها في حال وقعت في أزمة بسبب مواقف الإدارة الأمريكية القادمة على الصعيد الاقتصادي أو على صعيد الخلافات في حوض المتوسط وسوريا، وكذلك فإنها تعد أن كسر حاجز الخلاف عبر السعودية سيحد من تأثير العديد من خلافاتها مع بعض دول المنطقة كمصر والإمارات بل وقد تكون السعودية البوابة التي تدخل منها تركيا لتحسين علاقاتها مع هذه الدول خاصة، وأن تركيا أعلنت عدة مرات أنها لا ترغب بالقطيعة خاصة مع مصر، حتى أن الرئيس وبشكل خالف التوقعات أعلن قبل فترة عن علاقات جيدة بين أجهزة الاستخبارات في البلدين حول الملفات العالقة.
وبناءً عليه فإن المملكة العربية السعودية وتركيا بحاجة ماسة لبعضهما بعضًا في مواجهة التقلبات التي قد تعيشها المنطقة في المرحلة القادمة، وبالمناسبة ليست السعودية وتركيا فحسب هما اللتان تسعيان لتحسين علاقاتهما ببعضهما بعضًا، بل يبدو أن التغيير القادم في البيت الأبيض دفع العديد من الأطراف في المنطقة لإعادة التموضع في علاقاتها والتقليل من خصومها لتصنع لها شبكة مصالح وعلاقات تساعدها في مواجهة هذه التغيرات.