كان اسمه "جاكسون"، هكذا كان يناديه الأسرى الفلسطينيون في سجن نفحة الصحراوي، ربما لأن الشاب الفلسطيني الأسير كان أشقر اللون، أو ربما لأنه عنيف عنيد، لا يتردد في خوض معركة مع كل إدارة السجون الإسرائيلية وحيداً.
في أحد أيام سجن نفحة الصحراوي، وفي أثناء خروجنا إلى باحة السجن، تأخر الأسير جاكسون في الخروج من الغرفة قليلاً لسبب ما، وبعد دقائق نادى جاكسون على السجان أن افتح الباب، أريد الخروج إلى باحة السجن.
تردد السجان، وتأخر في فتح الباب بشكل متعمد، وهذا ما استفز جاكسون، الذي بدأ يشتم ويسب، ويلعن السجن والسجان.
فتح السجان باب الغرفة، وهو يدمدم بألفاظ عبرية غاضبة، وخرج الأسير جاكسون من الغرفة دون أن يتوقف لسانه عن شتم السجان بشكل مباشر، وفتح السجان باب الباحة وهو غاضب ومستفز من الأسير جاكسون، الذي خرج إلى باحة السجن، وهو يهدد ويتوعد، لتزداد نبرة التحدي والمواجهة بين السجين والسجان، حين أغلق الباب، وصار السجين في الباحة، وصار السجان داخل ممر القسم.
لم ننتبه نحن الأسرى الموجودون في الباحة إلا حين شاهدنا الأسير جاكسون، وهو يركض باتجاه كرسي، ويلتقطه، ويهجم به على السجان من خلف القضبان، وهذا سلوك عدواني يتنافى مع التفاهم القائم بين إدارة السجن والأسرى الفلسطينيين، تفاهم يقوم على احترام الحكم الذاتي للأسرى داخل الغرف، وتحسين نوعية الطعام الذي تقدمه الإدارة، وعدم استفزاز الأسرى، والسماح للأسرى بشراء كل ما يحتاجون إليه من الخارج، وأشياء أخرى، على أن تضبط قيادة الأسرى سلوك الأفراد، وعدم السماح بالتمرد، أو الاعتداء على ضباط السحن، وعدم الإخلال بالأمن، وعدم القيام بأنشطة واحتفالات دون إعلام الإدارة مسبقا.
لما سبق من تفاهمات، فإن تهجم الأسير جاكسون وهجومه على السجان الإسرائيلي يتعارضان مع التفاهمات، لذلك تحرك الأسير جبر وشاح، والأسير محمد العواودة على وجه السرعة، وأمسكا بالأسير جاكسون، وردعاه على مرأى ومسمع من الأسرى الفلسطينيين، وأمام عين السجان الإسرائيلي، وتحت سمع وبصر إدارة السجن التي كانت تراقب المشهد من خلال الحراس.
ردع الأسرى الأسيرَ جاكسون جنَّب السجن عملية قمع، وجنب الأسرى مشكلات وصراعات دموية مع إدارة السجن، وجنب الأسير جاكسون نفسه عقاباً وعذاباً وعزلاً في الزنازين، فقد اعتبرت إدارة السجن أن الحدث قد انتهى، ما دامت هناك قوة أو قدرة لدى الأسرى لضبط سلوك من يخرج على التفاهمات، وما داموا ملتزمين بالتفاهمات فنحن ملتزمون.
لم تنته الحكاية..
بعد أيام أو شهور، اختلفت إدارة السجن مع ممثل الأسرى الفلسطينيين في بعض القضايا الحياتية، وأصر ممثل الأسرى على مطالب الأسرى، وأصر مدير السجن على عدم الاستجابة، ونشب الصراع، وخرج ممثل المعتقلين من الاجتماع غاضباً، وهو يهدد مدير السجن: من الآن فصاعداً، أنا لست ممثلاً للأسرى، ولست مسؤولاً عن ضبط سلوك الأسرى، ابحث عن غيري يردع جاكسون وأمثاله من مجانين السجن.
بعد أقل من ساعة، أرسل مدير السجن إلى ممثل الأسرى، وجلس معه جلسه مطولة، واستجاب لكل مطالب الأسرى، على شرط حفظ الأمن، وعدم القيام بأي أعمال تربك الحياة اليومية.
وهنا بدأت الحكاية!
ما دامت الحكومة الإسرائيلية لم تلتزم بالاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير، وما دامت تواصل الاستيطان والسيطرة على الأرض، وتواصل الاستخفاف بالسلطة، وتقتحم منطقة "ا" وما دامت تواصل تهويد القدس، وتقيم مئات الحواجز، فلماذا تصر القيادة الفلسطينية على ضبط سلوك أمثال الأسير جاكسون؟ لماذا لا تطلق قيادة المعتقل الفلسطيني يد كل جبار وعنيد وعنيف من رجال فلسطين؟ لماذا تظل قيادتنا تلتزم بما لا يلتزم به الاحتلال؟ لماذا لا ينسحب ممثل الأسرى، ويعلن أنه لم يعد المسؤول عن ضبط الأمن والنظام على طرق المستوطنين؟